الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد؛
فتمتاز الشريعة الإسلامية باحتوائها على قدر كبير من التسامح في جوانبها وأحكامها المختلفة، ينعم المسلمون عند تطبيق ما جاء به دينهم بهذا التسامح؛ مما يحافظ على ما في هذا المجتمع من مودة وترابط وتحاب وألفة؛ إذ يمتد هذا التسامح بين أفراد المجتمع ليستظل به أصحاب المعاصي والكبائر؛ بل وأصحاب البدع والمنكرات في حدود لا تخل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تهمل النصح والتناصح في الله -تعالى-، فتتغلب الأخوة الإيمانية التي تربط بين المسلمين جميعـًا على ما في بعض أفراد المجتمع من الخطأ أو التقصير أو ارتكاب الذنوب أو الوقوع في البدع والمنكرات، ونظرًا لأن مظاهر هذا التسامح في الشريعة يصعب جمعها في هذا الموضع نشير إلى صور منها في جوانب الشريعة المختلفة.
فمن مظاهر التسامح بين المسلمين بعضهم مع بعض التي أمر الشرع بها أو حث عليها:
- التسامح في البيع والشراء، والمطالبة بالديون، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذا بَاعَ وإِذا اشترَى وَإِذا اقتضَى) (رواه البخاري).
- إنظار المعسر أو التجاوز عنه؛ قال الله -تعالى-: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:280)، وفي الحديث المرفوع: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا فَلَقِي اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيء إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوسِرًا فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ، فقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ) (رواه مسلم).
- التراحم والرفق والرقة مع الآخرين وخفض الجناح لهم؛ قال -تعالى-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء:215)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ مَنْ وَلِي مِنْ أَمْرِ أمَّتِي شَيْئـًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِي مِنْ أَمْرِ أمَّتِي شَيْئـًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بالسَّهَر وَالْحُمَّى) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي لأقومُ فِي الصَّلاَةِ أرِيدُ أَنْ أطوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِي، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَة أَنْ أَشُقَّ عَلى أمِّهِ) (رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَة ًمِنْ كُـرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَة مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أخِيهِ) (رواه مسلم).
- الحنث في اليمين مع أداء الكفارة مراعاة للغير وتقديمًا للخير؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- صَوْتَ خُصُومٍ بالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا، وَإذا أَحَدُهُمَا يَسْتـَوْضِعُ الآخَرَ -أي: يسأله أن يضع عنه بعض دينه- وَيَسْتَرْفِقـُهُ في شَيء -أي: يسأله الرفق فيه-، وَهْوَ يَقولُ: وَاللَّهِ لا أفْعَلُ. فَخَرَجَ عَليْهِمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (أَيْنَ الْمُتَأَلِّي -أي: الحالف- عَلَى اللَّهِ لاَ يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ). فَقَالَ: أنا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلهُ أَي ذَلِكَ أَحَبَّ. (متفق عليه).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ حَلفَ عَلى يَمِينٍ فرَأى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ) (رواه مسلم)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنِّي وَاللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لا أَحْلِفُ عَلى يَمِينٍ ثُمَّ أَرَى خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ) (متفق عليه).
- الأمر بالإحسان للأقارب وإن أساءوا ووصلهم إن لم يصلوا والصبر على ذلك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلـُهُمْ وَيَقْطَعُونِي وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئونَ إِلَىَّ وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَىَّ. فَقَالَ: (لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفـُّهُمُ الْمَلَّ وَلا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ) (رواه مسلم)، قال النووي: "أي: كأنما تطعمهم الرماد الحار". وهو تشبيه لما يلحقهم من الإثم لما يلحق آكل الرماد الحار من الألم. وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ليْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا) (رواه البخاري).
- التنازل عما فاض عن الحاجة للغير عن طيب نفس؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا زَادَ لَهُ) قَالَ أبو سعيد الخدري: فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لا حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِي فَضْلٍ. (رواه مسلم).
- الحث على الملاينة والتساهل في المعاملة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (ألا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّار أو بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ) (رواه الترمذي وصححه الألباني).
- الأمر بالعفو عن المسيء والإعراض عن الجاهلين؛ قال -تعالى-: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) (النور:22)، وقال -تعالى-: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134)، وقال -تعالى-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199)، وعَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالتْ: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئـًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلا امْرَأَةً وَلاَ خَادِمًا إِلا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيء قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيء مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" (رواه مسلم)، وعنها: "وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِنَفْسِهِ فِي شَيء قَطُّ، إِلا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَة اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ بِهَا لِلَّهِ". (متفق عليه).
- اختيار الأيسر لمنع المشقة؛ فعَنْ عَائِشَة رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: "مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلا أَخَذ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ". (متفق عليه).
- إقالة المعثر وهو من ندم على بيع باعه وعقد أمضاه ويشعر بحاجته إلى الرجوع في العقد وإلغاء حكمه وآثاره؛ فندب الشرع إلى إجابة طلبه وإقالة عثرته فيتسامح الطرف الآخر ويرضى بإلغاء البيع والعقد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالـَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ) (رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني).
- أما التسامح مع المخطئين والعصاة وأصحاب البدع والمنكرات فهذا باب واسع؛ إذ جعلت الشريعة أمثال هؤلاء يُحَبون من جانب ويُبغَضون من جانب وتبقى لهم الأخوَّة الإيمانية لا تنقطع وتتجلى الرحمة بهم والتسامح معهم في عدم تكفيرهم على أخطائهم، وعذر من له العذر حتى تقام عليه الحجة؛ فلا يكفر إلا من قامت عليه الحجة التي يكفر صاحبها إن أصر على كفره، وكذلك بجواز الصلاة خلفهم في الجمع والجماعات، ونسوق في ذلك بعض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان موقف أهل السنة والجماعة مع هؤلاء؛ لما يتضمنه كلامه من الدقة في التعبير والضبط في الاستدلال.
يقول ابن تيمية -رحمه الله-: "ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه؛ كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة؛ فإن الله -تعالى- قال: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285)، وقد ثبت في الصحيح أن الله -تعالى- أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم، والخوارج المارقون الذين أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة؛ بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين؛ فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يَسْبِ حريمهم ولم يغنم أموالهم، وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم؛ فكيف بالطوائف المختلفة الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لإحدى هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها وإن كانت فيها بدعة محققة؛ فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضًا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعـًا جهال بحقائق ما يختلفون فيه" اهـ [مجموع الفتاوى (282/3)].
ويقول -رحمه الله-: "وحقيقة الأمر في ذلك أن القول قد يكون كفرًا فيطلق القول بتكفير صاحبه فيقال من قال كذا فهو كافر ولكن الشخص المعيَّن الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد فإن الله -سبحانه و-تعالى-- يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) (النساء:10)، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق؛ لكن الشخص المعيَّن لا يشهد عليه بالوعيد؛ فلا يشهد لمعين من أهل القبلة بالنار لجواز أن لا يلحقه الوعيد لفوات شرط أو ثبوت مانع؛ فقد لا يكون التحريم بلغه وقد يتوب من فعل المحرم وقد تكون له حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم وقد يبتلى بمصائب تكفر عنه وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله -تعالى- بها؛ فمن كان من المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإن الله سبحانه و-تعالى- يغفر له خطأه كائنًا من كان؛ سواء في المسائل النظرية أو العملية، وهذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجماهير أئمة المسلمين" اهـ [مجموع الفتاوى (345/23)].
ويقول شيخ الإسلام أيضًا في الصلاة خلف أهل البدع والمنكرات -ومعلوم أن الصلاة أهم واجبات الدين وأركانه-: "فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة، ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإذا رأى بعضهم ضالاً أو غاويًا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وإذا كان قادرًا على أن يولي في إمامة المسلمين الأفضل ولاه، وإن قدر أن يمنع من يظهر البدع والفجور منعه، وإن لم يقدر على ذلك فالصلاة خلف الأعلم بكتاب الله وسنة نبيه الأسبق إلى طاعة الله ورسوله أفضل؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصحيح: (يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السنةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنـًّا) (رواه مسلم)، وإن كان هجره لمظهر البدعة والفجور مصلحة راجحة هجره؛ كما هجر النبي -صلى الله عليه وسلم- الثلاثة الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم، وأما إذا ولي غيره بغير إذنه وليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية كان تفويت هذه الجمعة والجماعة جهلاً وضلالة، وكان قد رد بدعة ببدعة، حتى أن المصلي الجمعة خلف الفاجر اختلف الناس في إعادته الصلاة وكرهها أكثرهم؛ حتى قال أحمد بن حنبل في رواية عبدوس: من أعادها فهو مبتدع. وهذا أظهر القولين؛ لأن الصحابة لم يكونوا يعيدون الصلاة إذا صلوا خلف الفجور والبدع" اهـ [مجموع الفتاوى (286/3