http://www.almeshkat.net/books/searc...6+%DD%ED%D5%E1
"بسم الله الرحمن الرحيم"
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين , أما بعد:
فهذه رسالة تتحدث عن فقه أقدار الله المؤلمة أصالة وأقداره السارة على وجه التبع وموقف المسلم منها , وحقيقة الحياة الطيبة.
• القضاء والقدر:
• تعريف القضاء والقدر: هو تقدير الله للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته
حكمته أو هو علم الله وكتابته للأشياء ومشيئته وخلقه لها.
والإيمان بالقدر يقوم على أربعة أركان تسمى مراتب القدر وهي العلم والكتابة والمشيئة والخلق , وأفعال العباد داخلة في عموم خلقه عز وجل ولا يُخرجها عن ذلك العموم شيء.
ومفهوم هذه المراتب ما يلي:
1 - العلم: فنؤمن بأن الله تعالى بكل شيء عليم , علم ما كان وما يكون وكيف يكون بعلمه الأزلي الأبدي فلا يتجدد له علم بعد جهل ولا يلحقه نسيان بعد علم.
2 - الكتابة فنؤمن بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة.
3 - المشيئة فنؤمن بأن الله تعالى قد شاء كل ما في السموات والأرض فلا يكون شيء إلا بمشيئته , فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
4 - الخلق فنؤمن بأن الله تعالى خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل.
وهذه المراتب الأربع شاملة لما يكون من الله تعالى نفسه ولما يكون من العباد فكل ما يقوم به العباد من أقوال أو أفعال أو تروك فهي معلومة لله تعالى مكتوبة عنده والله تعالى قد شاءها وخلقها ولكننا مع ذلك نؤمن بأن الله تعالى جعل للعبد اختياراً وقدرة بهما يكون الفعل ونرى أنه لا حجة للعاصي على معصيته بقدر الله تعالى لأن العاصي يُقدم على المعصية باختياره من غير أن يعلم أن الله تعالى قدَرها عليه , إذ لا يعلم أحد قدر الله تعالى إلا بعد وقوع مقدوره ونؤمن بأن الشر لا يُنسب إلى الله تعالى لكمال رحمته وحكمته فنفس قضاء الله تعالى ليس فيه شر أبداًَ لأنه صادر عن رحمة وحكمة وإنما يكون الشر في مقضياته ومع هذا فإن الشر في المقضيات ليس شراً خالصاً محضاً بل هو شر في محله من وجه , خيرٌ من وجه أو شر في محله خيرٌ في محل آخر.
والتقدير ينقسم إلى خمسة أقسام وهي:
1 - التقدير العام لجميع الكائنات.
2 - التقدير البشري: وهو التقدير الذي أخذ الله فيه الميثاق على بني آدم في عالم الذر.
3 - التقدير العمري: وهو تقدير كل ما يجري على العبد من لدن نفخ الروح فيه إلى نهاية أجله.
4 - التقدير السنوي: وهو تقدير ما يجري كل سنة وذلك ليلة القدر من كل سنة.
5 - التقدير اليومي: وهو تقدير ما يجري كل يوم.
والتقدير البشري يدخل في التقدير العام على مذهب بعض أهل العلم فلا حاجة لذكره والله أعلم.
- ما شاء العبد إن لم يشأ الله لم يكن , وما شاء الله وإن لم يشأ العبد كان.
- ما لم يشأ الله كونه فإنه لا يكون لعدم مشيئته له لا لعدم قدرته عليه.
- ينبغي للمؤمن استشعار واستحضار أنه لا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا
بإذن الله وأما الإيمان بمراتب القدر فيكفي فيها الإيمان المجمل من غير استشعاره كل حين , بل ينبغي عدم التعمق والوسوسة في مراتب القدر فهو ذريعة الخذلان وسلم الحرمان.
- أفعال العباد الاختيارية هي من الله خلقاً وإيجاداً وتقديراً وهي من العباد فعلاً
وكسباً فالله هو الخالق لأفعالهم وهم الفاعلون لها.
- القدر قدران أحدهما المُثبت أو المُبرم وهو ما في أم الكتاب فهذا لا يتغير ولا
يتبدَل , والثاني: القدر المعلَق أو المقيَد وهو ما في كتب الملائكة فهذا الذي يقع فيه المحو والإثبات.
- أفعال العبد قسمان أفعال هو مُجبر عليها مُسيَر عليها كحركة القلب والهرم
ونحوها وأفعال هو مُخيَر فيها وهي مناط التكليف.
- الفرق بين فعل العبد اللاإرادي والفعل الإرادي المُختار:
أن ما وقع باختيار العبد هو مناط التكليف وفعل العبد الاختياري وغير الاختياري هما من جُملة القضاء والقدر.
• هل للإنسان قدرة ومشيئة أم لا؟
نعم له مشيئة وقدرة , ومشيئته وقدرته واقعتان بمشيئة الله عز وجل تابعتان لها.
فللعبد قدرة واختيار ومشيئة لا يجبره على فعله الاختياري أحد حتى خالقه بل يفعل ما يفعله بمحض إرادته وحسب مشيئته, لكن فعله هذا وإرادته هذه داخله في خلق الله تعالى له كما أنها مسبوقة بعلم الله الأزلي فلا يعمل عملاً إلا وقد سبق تقديره وإرادته في علم الله الأزلي وكتبه عنده في كتابه الذي جرى بما كان ويكون إلى قيام الساعة وعلم الله كاشف لا مُكره ولا تأثير لما سبق في علم الله وكتابته وتقديره على محض اختيار العبد وإرادته فكتابة الله المقادير في اللوح المحفوظ هي كتابة علم وليست كتابة إجبار والله عز وجل يعلم ما كان , ويعلم ما يكون , ويعلم ما سيكون , ويعلم ما لم يكن لو كان كيف سيكون فعلمه مطلق وقد أحاط بكل شيءٍ علماً ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء , وكتابة أفعال العباد الاختيارية في اللوح المحفوظ فرع عن علمه عن الخلق وما سيعملون وعلى هذا فالمكتوب من أعمال العباد الاختيارية واقع لا محالة , لا, لأن المكتوب جبر للعبد بل لأن المكتوب فرع عن علم الله المُطلق المُحيط بخلقه.
• حكمة الله عز وجل:
- الله عز وجل له الحكمة البالغة في كل فعل من أفعاله وقد تظهر لنا الحكمة وقد
تخفى ولا يلزم أن ندرك حكمته عز وجل في كل شيء أو أن يدرك ذلك كل أحد.
- على المسلم أن يعلم أن لله تعالى في جميع أفعاله حكماً جليلة ظهرت لنا أو
خفيت فالله عز وجل لم يُطلع خلقه على جميع حكمه بل أعلمهم بما شاء وما خفي عليهم أكثر مما يعلموه فأفعال الله وأوامره لا تخلو من الحكم الباهرة العظيمة التي تُحيَر العقول وإن كُنا لا نعلمها على وجه التفصيل لأن عدم العلم بالشيء لا يلزم منه عدمه.
- من حِكم خلق إبليس أن يظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات
والمتقابلات وأن يكمل الله لأوليائه مراتب العبودية وحصول الابتلاء ليكون محكاً يمتحن به الخلق ليتبين به الخبيث من الطيب وظهور آثار أسماء الله تعالى ومقتضياتها ومتعلقاتها واستخراج ما في طبائع البشر من الخير بإرسال الرسل ومن الشر بخلق إبليس , وغيرها من الحكم.
ومن حِكم خلق المصائب والآلام الدنيوية استخراج عبودية الضراء وهي الصبر كما تُستخرج عبودية السراء وهي الشكر وطهارة القلب والخلاص من الخصال القبيحة كآفات القلوب المعلومة من كبر وعجب وفرعنة وقسوة قلب ونحوها والنظر إلى قهر الربوبية وذل العبودية وإيقاظ المبتلى من غفلته ومعرفة قدر العافية وحصول رحمة أهل البلاء والصلاة من الله والرحمة والهداية وحصول الأجر وكتابة الحسنات وحط الخطيئات والعلم بحقارة الدنيا وهوانها والدخول في زمرة المحبوبين وغير ذلك من الحكم.
• الاحتجاج بالقدر:
- لا يُحتج بالقدر على الشرع.
- محل جواز الاحتجاج بالقدر:
الاحتجاج بالقدر على وجه الإيمان به والتوحيد والتوكل على الله والنظر إلى سبق قضائه وقدره محمود مأمورٌ به وكذلك الاحتجاج به على نعم الله الدينية والدنيوية , وكذلك إذا فعل ما يقدر عليه من الأسباب النافعة في دينه ودنياه ثم لم يحصل له مُراده بعد اجتهاده فإنه إذا اطمأن في هذه الحال إلى قضاء الله وقدره كان محموداً وكذلك إذا احتج بعد التوبة من الذنب ومغفرة الله , وأيضاً يجوز الاحتجاج بالقدر والعذر به في أخطاء الخلق في حق العبد الخاص.
• حكم الرضا بالقضاء:
الرضا بقضاء الله عز وجل فيه تفصيل نرضى بالقضاء الذي هو فعل
الله عز وجل وأما المقضي الذي هو فعل العبد ففيه تفصيل فإن كان مرضياً لله رضينا به كالطاعات والإيمان وإن كان غير مرضي لله لم نرض به كالمعاصي.
يقول القرافيّ: اعلم أنّ السخط بالقضاء حرام إجماعاً والرّضا بالقضاء واجب إجماعاً بخلاف المقضيّ به، فعلى هذا إذا ابتلي الإنسان بمرض فتألم من المرض بمقتضى طبعه فهذا ليس عدم رضا بالقضاء بل عدم رضا بالمقضيّ ونحن لم نؤمر بأن تطيب لنا البلايا والرزايا ومؤلمات الحوادث، ولم ترد الشريعة بتكليف أحد بما ليس في طبعه، ولم يؤمر الأرمد باستطابة الرمد المؤلم ولا غيره من المرض، بل ذم الله قوماً لا يتألمون ولا يجدون للبأساء وقعاً فذمهم بقوله تعالى: «وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ»، فمن لم يستكن ولم يذل للمؤلمات ويظهر الجزع منها ويسأل ربه إقالة العثرة منها فهو جبار عنيد بعيد عن طرق الخير، فالمقضيّ والمقدور أثر القضاء والقدر، فالواجب هو الرّضا بالقضاء فقط، أما المقضيّ فقد يكون الرّضا به واجباً كالإيمان بالله تعالى والواجبات إذا قدرها الله تعالى للإنسان، وقد يكون مندوباً في المندوبات وحراماً في المحرمات، ومباحاً في المباحات، وأما الرّضا بالقضاء فواجب على الإطلاق، وقد «حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لموت ولده إبراهيم ورمي السيّدة عائشة بما رميت به» إلى غير ذلك ; لأنّ هذا كله من المقضيّ، والأنبياء عليهم السلام طباعهم تتألم وتتوجع من المؤلمات وتسرّ بالمسرات، وإذا كان الرّضا بالمقضيّ به غير حاصل في طبائع الأنبياء فغيرهم بطريق الأولى ... انتهى.