مقدمة (الواضح) :
بسم الله الرحمان الرحيم :
والحمد لله رب العالمين ..وصلواته على سيدنا محمد وآله الطاهرين ..أما بعد :
فإن كثيرا من أصحابنا المتفقهة سألوني تأليف كتاب جامع لأصول الفقه ..يوازي في الإيضاح و البسط و تسهيل العبارة التي غمضت في كتب المتقدمين .. ودقت عن أفهام المبتدئين..كتابيَّ الكبيريْن الجامعيْن للمذهب و الخلاف ..وأستوفي فيه الحدود و العقود ..ثم أشير الى الأقرب منها الى الصحة ..و أميز المسائل النظريات بدلائل مستوفاة ..وأسئلة مستقصاة ..ليخرج بهذا الإيضاح عن طريقة أهل الكلام و ذوي الإعجام الى الطريقة الفقهية ..والأساليب الفروعية ..فأجبتُهم الى ما طلبوا ..معتمدا على الله سبحانه في انتفاعي على النمط الذي طلبوا وأمّلوا .. مع بذل وسعي في ذلك..واستقصائي فيه .. ولن يخيب عن درك البغية من صدق نفسه الطلب ..وبلغ جده في الاجتهاد لدرك المطلب .. ثم فزع الى الله سبحانه فيما وراء جهده ..طالباً للإعانة على درك الإصابة في قصده بحسن التوفيق و الهداية ..واثقا بقوله سبحانه : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا )
-فصل : في معنى قولنا: أصول الفقه :
الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية بطريق النظر و الاستنباط.
وأصوله ; هي ما تبنى عليه الاحكام الفقهية من الأدلة على اختلاف أنواعها ومراتبها : كالكتاب و مراتب أدلته ..من نص .. وظاهر..وعموم .. ودليل خطابه ..وفحوى خطابه ..والسنة و مراتبها ..والقياس ..وقول الصحابي - على الخلاف -..واستصحاب الحال مع انقسامه ..فهذه أصول تنبني عليها الأحكام .
ولا ينصرف إطلاق الفقه الى العلم جملة ..بدليل علم النحو والطب و اللغة والهندسة والحساب ..فإن العلماء المبرزين فيها لا يقع عليهم اسم الفقهاء ..ولا على علومهم اسم الفقه .. وكذلك العلماء بأصول الدين ..العارفون بالجواهر و الأعراض و الأجناس و الأنواع و الفصل والخاصة ..والاستدلال بالشاهد على الغائب .. لا يقع عليهم اسم فقهاء ..لعدم علمهم بأحكام الشرع ..ولا تسمى علومهم أصولا للفقه ..وإن كانت الأدلة التي ذكرنا بالأصول تنبني على العلوم التي يبنى عليها إثبات أصول الدين ..من حدث العالم ..وإثبات الصانع .. وأنه واحد .. وما يجب له ..وما يجوز عليه ..وما لا يجوز عليه ..وبعثة الرسل وصدقهم ..الى امثال ذلك ..ولكن لما كانت أخص بكونها أصولا للدين ..لم يطلق عليها ما انبنى على ما دونها من الأصول ..ما لا يقال في اللغة أصول الدين ..وإن كانت الأحكام الشرعية مبنية على الالفاظ اللغوية .
لكن العلماء علّقوا الأسماء على الاقرب و الاخص دون الابعد و الاعم ..كما فعلوا ذلك في الأنساب والدلائل ..فلم يحيلوا بدلالة الإجماع على الإعجاز الذي هو دليل صدق النبوة ..لكن أحالوا بحجة الإجماع على قول الصادق لأنها أقرب ..دون دلالة صدق الصادق لأنها أبعد .
...والمعوّل عليه عند علمائنا أن الفقه هو العلم لا الفهم ..لأن الفهم قد اشترك فيه العامي و المجتهد ..وانفرد أهل الإجتهاد بكونهم علماء ..وليس كل فهِم عالماً..وكل عالمٍ فهمٌ ..والله أعلم
-فصل : العلم :
قد اختبطت في تحديد حقيقة العلم أقوال العلماء ..
فقال قوم : العلم معرفة المعلوم على ما هو به :
اعتُرضَ قوله بأنه صرّف من اللفظة قبل بيان معناها ..وقولنا (معلوم) مصرّف من (عَلِمَ) ..كمضروب من ضرب ..ومن لا يعرف الأصل لا يعرف المصرَّف منه ..وما هذا إلا بمثابة من حدَّ السواد بما سود الجسم ..ونحن لم نعلم سوادا فكيف نعرفه بما صرِّف منه ؟
وقال قوم : العلم معرفة الشيء على ما هو به :
معترَض بأنه يخرج منه العلم بالمعدوم ..فإنه علم ..وليس بمعرفة بشيء..وإن بناه على ذلك الأصل ..فهو فاسد بالأدلة القاطعة في أصول الدين ..ولو كان ذاتاً في العدم لكان مستغنياً بذاته عن القديم ..وهذا نفس القول بقِدَم العالم ..وموافقةٌ لأصحاب الهوى .
وقال قوم : العلم تَبيُّن المعلوم على ما هو به :
والحد للحقيقة ينتظمها شاهداً وغائباً ..والله سبحانه يتعالى عن أن يوصف بأنه مُتَبَيِّنٌ..لما في طبع هذه الكلمة و جوهرها من العثور على الشيء بعد خفائه ..والظهور بعد استبهامه ..وهو بالعثور بعد الخفاء أخص منه بالمعرفة المطلقة .
وقال قوم : العلم اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس الى معتقَده :
واعتُرِض بأن ما تعتقده العامة من الجهالات ..وتسكن اليه من التقاليد ..ليست علوما ..وسكونها الى ما تعتقده يمكن إزالته بالتشكيك فيه بأنواع الحجج و البراهين ..فضلا عن الإزاحة عنه .
وقال قوم : العلم إدراك المعلوم او الشيء على ما هو به :
و(إدراك ) لفظ عام يشترك بين درك الحواس ة العلوم ..والحد بالمشترك لا يجوز ..وإنما يُحد الشيء بخصيصة .
وقال الشيخ ابو القاسم بن برهان : هو قضاء جازم في النفس ..
قلتُ : والقضاء بالحكم أخص منه بالعلم .
وأحسن ما وجدته لبعض العلماء أنْ قال : هو وِجدان النفس الناطقة للأمور بحقائقها .
والعلم ينقسم قسمان : قديم ومحدث :
فالقديم : علم الله سبحانه ..صفة من صفاته ..ولازم من لوازم ذاته ..دلَّ على إثباته إتقان أفعاله ..ونصّ كتابه ..وهو علم واحد يتعلق بالمعلومات على حقائقها ..لا يتعدّد بتعدّد المعلومات .. ولا يتجدّد بتجدّد المُحدَثات ..ولا يوصف بكسبي ولا ضروري .
والعلم المحدَث : وهو ضربان : ضروري.. ومكتسب :
فالضروري : ما لزم نفس للمخلوق لزوما لا يمكن دفعه و الخروج عنه ..وقولنا : (نفس المخلوق) تحرّزٌ عن العلم القديم .. وهو ضربان :
بديهي لا يحتاج الى مقدمات ..ولا سياقاتٍ نظرية ..كالعلم بنفسه و أحوالها .
وما يحصل بوسائط و مقدمات ..كعلم الهندسة و مسائلها .
وأما الاستدلالي الكسبي : فهو العلم المكتسب بالنظر والاستدلال ..كالاستدلال بالشاهد على الغائب ..و الصنعة على الصانع...
والنظر هو طريق العلم الاستدلالي ..يقع بالبحث و الفكر ..
والاستدلال : طلب مدلوله .. وذلك انما يقع بالفكر و البحث ..
والعلم الاستدلالي يتطرق عليه الشك والشبهة ..
واعلم : أن علم الاكتساب كله مردود الى علم الاضطرار ..وقد يكون مردوداً بمقدمات و مراب ..فمِن ذلك أنه قد يكون عشر مقدمات في عشر مراتب ..فتُردّ العاشرة الى التاسعة ..و التاسعة الى الثامنة..و الثامنة الى السابعة ..ثم على ذلك الى الأولى ..
مثاله : الإجتهاد مردود الى الإجماع ..و الإجماع مردود الى النبوّة ..و النبوّة مردودة الى المعجزة.. المعجزة مردودة الى أحد أمريْن :
إما حكمة الله عزّ وجل التي دلْ عليها إتقان صنائعه و شرائعه ..فعندها تحصل الثقة بأنه لا يؤيد بمعجزة كذاباً ..ولا يزين قبحاً ..ولا يصدُّ عن حقّ ..ولا يحول بين المكلَّف وبينه .. وإذا لم يجد الإعجاز هذا المُستَنَد ..لم تحصل دلالته على صدق من قام على يديه ..
أو الى حُكمه وإرادته المطلقة و مشيئته لملكه .. على اختلاف المذهبيْن : مذهب أهل السنة ..ومذهب أهل المعتزلة ..فتتم العشرة على مذهبهم بردّ حُكمه الى غناه عن القبيح مع علمه به ..و غناه عن القبيح مع علمه به مردود الى دلالة أفعاله ..و دلالة أفعاله مردودة الى التغَيُّر ..والتغَيُّر ضرورة .
ومِن شَرَف العلم أنه يدّعيه من لا يحسنه ..ويفرح إذا نُسبَ إليه ..
فصل:طرق العلوم
طرق العلوم ستة لا سابع لها ..منها : العلوم الحاصلة بالمعلومات عن درك الحواس..وهي خمس:حاسةالبصر..والسمع..والشم..والذوق..واللمس..والس ادس من الطرق ..ضربان :هاجم على النفس ..وهو الضروري .. ومستحضر لها بالكسب ..وهو الاستدلال بالمحسوس على غير المحسوس ...
وما يحصل بطريق دلالة الحال من خجل الخجِل ..ووجَل الوجِل ..وبر البارّ..وعقوق العاق ..وما شاكل ذلك.
وأما ..ما يدخل هاجما على النفس ..كوجود الريّ والعطش و الشبع و الجوع ..وما يجده الإنسان من نفسه ..من صحته و سقمه ولذته وألمه ..وهو السادس من الطرق .
فصل :
وهذه الحاصلة عن الطرق التي ذكرناها غير متولّدة من هذه الطرق..وإنما هي حاصلة من الله فعلا عقيْبَ وجود الطرق التي ذكرناها ..التي بعضها كسبي ..كالتأمل و الاعتبار..والبحوث والافكار ..و بعضها تدخل دخول غلبة ..مثل العلم الحاصل عن أخبار التواتر ..وما يدخل على العيان وسائر الحواس ..فيُحد
فيُحدث اللهُ العلمَ عقيْبه ..كما يُحدث الموت عقيب الجراح ..والجزع عند رؤية الأسد ..والمسرة عند تجدّد الظفر ..وقدوم الغائب .. وإيلاد الولد .. إذ كان القول بالتولٍّل قولاً يضاهي قول أهل الطبع الذي قام بفساده دليل العقل.. وكذّبه الشرع ..وذلك هو المانع لنا مِن القول بخَلق الأفعال مُضافة الى غير الله سبحانه ..وكما قامت الدلالة بفساد قول أهل الطبع قامت بفساد القول بإثبات شريك في الخلق .
وإنما أنس كثير من المستأنسين بالحواس المحطوطين عن درجة النظر بجري العادات..فأضافوا الى غير الله ما لا يكون إلا من الله..كالولد يوجد عند الجماع .. والزرع يوجد عن فعل الزّرّاع .. والموت يوجد عند جَرح الجرّاح .. وذلك أثر وُجِد عنده و عقيْبه لا عنه ..وكذلك وجود الكون عند وجود الجوهر لا محالة ..وليس بمتولِّد عنه .. بما ثبت لله تعالى من دلالة الوحدة في الصنع ..وهذا أصل كبير .
-فصل :
الفقه الذي هو العلم بالأحكام الشرعية ..فهي القضايا الشرعية ..
وذلك هو : الإباحة ..والحظر ..والإيجاب..والندب..والكراهة..والتنزيه..وقد أدخل قوم فيها : الشك ..والوقف ..
ولا يستحق بمعرفة هذه الأحكام والعلم بها اسم الفقيه ..إلا من علمها بطريق النظر في أدلة الشرع ..وأسند كل حكم الى دليله ..واستثاره بمُثير.
فصل : الصحابي :
ظاهر كلام أحمد : يطلق اسم الصحابي على من رأى النبي ( ص) ، وإن لم يختص به اختصاص المصحوب ولا روى عنه الحديث.
فصل : إجماع علماء الأمة
إن الله سبحانه لم يخل شريعة من الشرائع من معصوم ..فإذا مضى معصوم بعث نبيا معصوما يحيي ما أمات المبطلون من شريعته ..ويجدد أحكاما بحسب العصر الآخر و مصلحة أهله ..و أن الله سبحانه لما جعل نبينا خاتم الانبياء لم تخل أمته من معصوم ترجع إليه ..يؤْمَن عليه الخطأ ..فجعل الله سبحانه إجماع علماء الأمة على الحكم حجة معصومة مأموناً عليها من الخطأ..هي خلف النبي المعصوم ..وقد أشار النبي (ص) الى ذلك حيث قال : (العلماء ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يخلّفوا دينارا ولا درهما ، وإنما خلفوا العلم ).
فصل في التقليد :
حد التقليد : الرجوع الى قول الغير بغير حجة ..وهو طريق العامي مع المجتهدين من العلماء ..في مسائل الفروع التي يسوغ الاجتهاد فيها .
فأما مسائل الأصول المتعلقة بالاعتقاد في الله ..فيما يجوز عليه و ما لا يجوز، و ما يجب له ، و ما يستحيل عليه ، وما يجب نفيه عنه ، فهذا لا يجوز التقليد فيه .
لا يجوز للعالم تقليد عالم ..سواء كان مثله أو أفضل منه ..وسواء كان الوقت يضيق عن الاجتهاد أو يتسع ..حاكما كان و لم يكن حاكما ..هذا ظاهر كلام أحمد .
فصل :
ما لم يرد الشرع فيه بحظر ولا إباحة ..لا يوصف بحظر ولا إباحة ..إذ ليس قبل ورود الشرع على أصله محسٍّن و لا مقبِّح ..والعقل عنده غير مبيح ولا حاظر ..ولا يحسّن و لا يقبّح .
فصل : المُحكم و المُتشابه :
المُحكم : ما استقل بنفسه..وكان أصلا لا يحتاج الى بيان بغيره .. ولذا اتفقت الأمة على معناه و حكمه ..لاتفاقهم في علمه لمّا كان ظهور حكمه من لفظه ..
و المُتشابه : ما لم يستقل بنفسه ..واحتاج الى البيان بغيره ..ووقع الخلاف فيه..لاشتباه المعنى فيه ..وغموض المقصود به ..
وذلك في الأصول و الفروع :
ففي الأصول : المحكم : قوله : ( ليس كمثله شيء ) : يعطي بنصه و صريحه نفي التشبيه عنه سبحانه ..(قل هو الله أحد) : يعطي نفي التثنية و الشركة بنصه و صريحه ..
والمتشابه من هذا القبيل قوله : ( ونفختُ فيه من روحي )..(فنفخنا فيها من روحنا)..(لما خلقت بيدي )..( ولتصنع على عيني ) .. ( والسماوات مطويات بيمينه ) ..(ثم استوى على العرش )..(ذلك عيسى ابن مريم قولَ الحق )..(رسولُ الله وكلمتُه ) ..فهذا يوهم الأعضاء و التشبيه بظاهره ..
واختلف فيه الناس الخلاف المعلوم ..فقوم سكتوا عن تفسيره .. وقوم أقدموا على تأويله ..وقوم قالوا بحمله على ظاهره ، ولا ظاهر منه إلا ما وُضع له في اللغة .. و ما وُضع له في اللغة معلوم ..وقوم صرَّحوا بالتشبيه ..
فأما المحكم من هذا القبيل ..فقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) ..(فلمّا أفل قال لا أحب الآفلين ) ..(إنّ مثل عيسى عند الله ممثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ).
فقوله: ( ليس كمثله شيء ) ..أزال الإشتباه من قوله (عيني)..و (يديَّ)..وأنها ليست جوارحاً ولا أبعاضاً .
وقوله : (لا أحب الآفلين ) ..أزال الإشتباه من قوله : (وجاء ربك )..(يوم يأتي)..(أو يأتي ربك )..وأنه كالانتقال المشاكل لأفول النجوم ..
وأما المحكم من الآي في الفروع : فما عُلم حكمُه من نطقِه ..ولم يُرفع بنسخه ..مثل قوله (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة )..
والمتشابه : ما احتاج الى البيان من غيره ..مثل قوله : (وآتوا حقه يوم حصاده )..فلا يُعلم الحق الواجب إيتاؤه إلا من غيره ..
فالمحكم في الأصول : يجب اعتقاده ..وهو نفي التثنية والتشبيه ..والمحكم في الفروع : جب اعتقاده و العمل به ..لمكان وضوحه ..والاتفاق على حكمه ..فلا وجه لتأخير اعتقاده و العمل به ..إذ لا عائق ولا مانع ..
وحكم المتشابه في الفروع : وهو المُتردِّد : أن يُردّ الى المحكم المتفق عليه ..فنحملُ اليد و الروح والاستواء والوجه والسمع والبصر ..على ما ينحَفظ بن المحكم المتفق عليه ..ولا ينحفظ قوله : ( ليس كمثله شيء ) إلا بقدر أن يُنفى عن هذه الأسماء ما تحتها من الأعضاء و الجوارح ..وما يُشكل في النفس عند إطلاق اللفظ من صفات الآدميين ..لذا لم يُتخلَّص من اطراح المحكم إلا بهذا لنفي ..بقي الإثبات ..فانقسم الناس فيه :
فمن قائل : أُثبتُ تحت هذه الأسماء شيئا ..لكن لا أعيّنه ..وأقول : الله أعلم به ..وهو مذهب أكثر السلف من الصحابة والتابعين رحمة الله عليهم ..ولا يصح هذا القول إلا ممن يقول : ليس اللفظ ظاهراً ..لأن المشتبه و الظاهر اسمان ضدان ..لأن الظاهر ما ترجّح الى أحد محتَمَليْه ..وما يقدر أحد يقولُ عن السلف الصالح : إنهم ذلك بما يظهر في اللغة من معاني هذه الأسماء ..و المتشابه : ما اشتبه أمرُه ..ولهذا قال سبحانه في المتشابه : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) ..فمن قال : له ظاهر عندنا فقد كذّب نص القرأن ..ونقضَ أصلَه بأصلِه ..فإنّ أصل هذه الطائفة : أنّ الوقف في هذه الآية على قوله : ( وما يعلم تأويله إلا الله) ..وأنّ العلماء لا يعلمون ..لكنْ يقولون ..فإذا عاد بعد هذا الأصل المحفوظ عنه وعليه يقولُ : أحملُ هذه الآيات و الأسماء و الإضافات على ظاهرها ..قلنا له : وأيّ ظهور ؟ ..وماذا ظهر لك مع تسمية الله لها متشابهات ..ومع إفراد نفسه بعلمها ..وما أفرد نفسَه بعلمه كيف تقولُ : له ظاهر عندي أحمله عليه ! ؟ ..فهذا أصل يجب أن يعتَمد على اعتقاده ..فليس غيرُه ما يُعتمَد عليه ..ولا يُلتَفَت إليه ..سيّما في هذا المذهب المنزَّه عن الابتداع ..فإذا ثبت بطلان قول من يدّعي في المتشابه ظاهراً بنفس قوله : إنه لا يعلم تأويلَه أحد من العلماء ..لم يبق إلا أن يكون أحدَ رجلين :
إمّا أن يقول : لا أدري ..ولا أعلم ..والله هو المستأثر بعلم هذه الأسماء المضافة إليه ..فهذا رجل أخبر بالتقصير عن علم ما استأثرالله بعلمه .
أو يقدِم على التأويل بحسب ما تقتضيه اللغة مما ينحرس به محكم الكتاب ..وهي آيات نفي التشبيه ..وإجماع الأمة عليه ..وشهادة دلائل العقول التي أُثبِتَ بها الصانع إثباتا دلّ على أنه متى أشبه خلقَه ..دخل عليه ما يدخل عليهم ..فأحوجنا ذلك الى صانع يصنعه ..كما أحوجنا ذلك في مخلوقاته إليه ..لأنّ المثل ما سدّ مسدّ مثلِه ..وجاز عليه ما يجوز عليه ..
ولا قسم ثالث سوى التصريح بالتشبيه ..ومن صرّح به ..زعقتْ به أدلة الشرع و العقل ..فأخرسته عن مقالته ..فافهم ذلك ..فهو أهم ما صُرفتْ العناية إليه ..فإنه الأصل الذي يُبتَنى ..عليه أصول الفقه .
فصل : الدلالة على ما ذكرناه :
أنّ الله سبحانه قال : (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب )..وأمّ الشيء : أصله ..وإنما سُمي المحكم أصلا لأنه -كما تقدّم -يُرَدّ اليه المتشابه ..كما يردّ الفرع الى أصله ..كالولد الى أبيه .. والثمر الى الشجرة ..وكل شيء صدرَ عن أصل حتى المخلوق الى خالقه ..فكذلك الآيات المحكَمة متفق على حكمها ..يُردّ المتردّد المختلَف فيه لأجل تردّده إليها ..وهذا صورة ما قدّمنا مثاله :
فإذا قال : (ليس كمثله شيء)..ثم قال : (وهو السميع البصير )..فاشتبَهَ على السامع شأن السمع و البصر ..هل هو بجارحة..أو هو بمعنى العلم بما يسمعه السامع منّا ..والعلم بما يبصره الواحد منا ..أو هو إدراك بغير جارحة ليس بالعلم ..لكنه زائد على العلم ..أو هو كون الذات سميعة بنفسها..لا بمعنى هو علم ولا سمع ولا بصر ..فإذا حصل الاشتباه في ذلك ..ثم صدر عنه ما حصل من الاختلاف بين أهل العلم ..وجبَ على العالم الراسخ في العلم ..أن يردَّ هذا الى أول الآية وهو نفي التشبيه بقوله سبحانه : (ليس كمثله شيء)..فينفي من هذه الامور المشتبهة ما يخرج عن أول الآية - وهو الإحكام - ..فإذا نفى التشبيه ..قال : إنه سميع ..لا بمثل ما نسمع مِن جارحة وجهة من ذواتنا وحاسة ..إذ لو حٌمِل على ذلك لانتفى قوله (ليس كمثله شيء).. وذلك نفي صريح لا يتردّد ..فكيف نزيله بما يتردّد ؟ ..فحملنا المتشابه على المحكم ..فانتفى التشبيه ..وبقي الأمر متردداً بعد نفي التشبيه بين مذهبين لا بأس بهما عند المحققين من العلماء :
أحدهما : القول بأنه سميع بصير ..والامساك عما به يسمع ويبصر ..لا تشبيه ولا تأويل ..
والثاني : التأويل على أنه يدرك المسموعات والمبصَرات ..ولا نزيد على ذلك ..
وأما التأويل الذي لُقِّب صاحبُه بالزيغ ..فإنه الحمل له على ما يوجب الاختلاف والتناقض ..أو تأويلُ ما يعود على المحكم بالنفي ..من نوع تشبيه يعود بنقض أول الآية ..فهذا صاحبه زائغ ..وقوله : (وما يعلم تأويله إلا الله ) ..يعني -والله أعلم - :لا يعلم كنه هذه الاضافات إلا منْ وصفَ نفسه بها تارة ..وأضافها اليه تارة اخرى ..كما قال سبحانه : (هل ينظرون إلا تأويله )..ينتظرون معنى ما سمعوا من البعث و الحساب و المجازاة ..(يوم يأتي تأويله )..ينكشف وعد الله ووعيده ..بالمعنى الذي أخبرت به الانبياء صلوات الله عليهم ..(يقول الذين نسوه)..يعني تروه من قبل ..(لقد جاءت رسل ربنا بالحق)..فالتأويل المضاف الى الله سبحانه :المعاني التي تحت الألفاظ ..ولا يعلم ذلك إلا الله .
(والراسخون في العلم )..الثابتون على صحة المعتقد ..(يقولون آمنا)..صدّقنا..(به .كلٌّ من عند ربنا)..يعنون :المحكم الذي نفى التشبيه ..وهذا المتشابه الذي يوهم التشبيه ..هما ميعا من عند الله ..فنحن نؤمن بأنه ليس بحيث يتناقض كلامه ..ولا يكون المتردد قاضيا على النص الغير متردد ..بل هذا من مثل ذاك ..والله سبحانه لا تناقض في كلامه ..ولا تفاوت في خلقه ..فلم يبق إلا أنّ لهذا المتشابه معنى هو العالم به ..المستأثر بعلمه ..فحَدُّنا إذا لم نصل إليه أن نستطرح للتسليم والتصديق ..وكذلك يجب في كل مشتبه من أفعاله يعطي ما لا يليق به ..أنْ يُحمَل على ما يليق به من إحكام فِعله الذي لا تفاوت فيه .
وكذلك في الفروع : إذا جاءت آية مجمع على حكمها ..وآية مختلف فيها ..سُقنا المختلَف فيه الى المتفق عليه ..
فصل:
و(اعلم أنّ ) الناسخ ..والمنسوخ ..والحروف المقطَّعة ..لا يفضي الخلاف فيها و التأويل لها .. -وإن أخطأ المتأوِّل - ..الى تسمية خطئه زيغا في قلبه ..ولا فسادا في عقله ..وما يدخل تحته ما يجوز على الله وما لايجوز ..وما يجب له من الوصف ..يدخله الزيغ والانحراف بالخطأ .. ويحسن فيه التسليم والايمان عند الإحجام عن التأويل خوف مساكنة التعطيل أو التشبيه ..وكذلك المجمع على معناه مع المختلف فيه ..فإنه متى زال الاجتهاد عن موافقة الإجماع ..كان زيغا و ضلالا.
فصل: أفعال القلوب
أفعال القلوب بها تصح الأعمال وتحبط الأعمال وتجب الأعمال..فالنيات أعمال القلوب..و بها تصح العبادات..والندم أعمال القلوب ..ويجُبّ ما قبله وتعضده العزوم بصحة التوبة الماحية لما قبلها ..واعتقاد الكفر يحبط كل صالح تقدمه من أعمال الجوارح والأركان .
فصل:
إذا أمر الله نبيه (ص) بعبادة ..نحو قوله : (يا أيها المزمل)..(يا أيها النبي )..أو فعَل فعلا عُرِف أنه واجب أو ندب أو مباح ..فتشركه أمته في حكم ذلك الأمر حتى يدل الدليل على تخصيصه .
فصل :
معرفة الله سبحانه التي لا يتعقّبها طاعة في سائر ما أمر به ..منحبطةُ الثواب ..وعباداتُه التي لا تتقدمها المعرفة منحبطةُ ..كما أن الطهارة لغير صلاة غيرُ نافعة ..والمعرفة لغير طاعة وعبادة غيرُ نافعة ...بل من لا يعرف ولم تحصل له المعرفة غير مؤاخذ بترك المعرفة إلا لإهماله شرطها ..وهو النظر والإستدلال القادر عليهما ..فكذلك التارك للعبادات مؤاخذ بترك تقديم مالا تتحصل العبادة إلا به ..وهو الإيمان .
فصل:
الترك للمعاصي على وجه مكابدة النفس لأجل احترام للناهي عنه ..هو أمر حُكمي يقف حصوله على تقدم الايمان والتصديق..
وإلا فالترك للمعاصي مع الكفر ..كترك المتطبب لشرب الخمر لمضرة علمَها فيه تعود الى مزاجه ..وكترك المتصاون عادة لفعل الزنا خوفا من المعرّة في قبيلته وحزبه ..والتارك للظلم لرقة طبعه و قلبه ، وما يلحقه من الألم بالاستطالة على المظلوم ..الى ما شاكل ذلك
فصل: إبليس من الملائكة
إبليس من الملائكة جنسا لا يمتاز عنهم ..عن ابن عباس : أنه كان من خزّان الجنة ..وكان رئيسهم ..
ةالذي يوضح أنه من الملائكة ..قوله تعالى : (ما منعك أن تسجد إذ أمرتك )..وإنما أمر الملائكة ..فلو لم يكن منهن لما دخل تحت الأمر.. ولا لحقه اللوم أو العقوبة بامتناعه ..كما لو نادى السلطان بإحضار الفقهاء..ولم يحضر شاعر أو نحوي ..فإنه لا يلحقه على عدم حضوره لوم من جهة السلطان .
وأما قولهم :إنه كان مخالف الملائكة في كونه من نار..وكونه مولودا له لقوله تعالى : (أفتتخذونه وذريته )..فيجوز أن يكون لما أبلسه الله غيّر خلقه ..كما غيّر آدم ..بأن يُجعل بحيث يبول و يتغوّط بعد أن لم يكن ..وأولد في الارض..ولم يولد في الجنة ..والنار والنور متقاربان ..
على أن قوله : (كان من الجن )..يجوز أن يكون أراد به فعله فعل الجن ..كقولنا : فلان من الملائكة ..إذا كان فعله الخير و العفة ..-كما وُصف يوسف عليه السلام بأنه ملك كريم - ...
وقد تتغير أحوال الملائكة بتغير الأفعال ..مما غيّر الله أخلاق هاروت وماروت الى ما ورد به النقل ..وعلّموا الناس السحر.
ويجوز أن يكون استثناؤه نن جملة المأمورين ..وقد يُجمع الأمر كما يُجمع الجنس ..فلما اجتمع هو و الملائكة في الأمر بالسجود وان كان من غير الجنس ..حَسُن استثناؤه من المشاركين له .
فصل:
في قوله تعالى : (إنكم وما تعبدون من دون الله خصب جهنم )..دخل في العموم الملائكة وعزير و عيسى ..فأخرجهم التخصيص بقوله : (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) .
فصل : الشرط العقلي و الشرط الشرعي :
اعلم أنّ الاتفاق قد حصل بين الاصوليين ..على أنه ما هو شرط لحكم و صفة بحكم عقلي ..فإنه لا يوجد ومثلُه إلا وهو شرط ..وذلك نحو وجود الجسم الذي هو شرط لوجود حسناته كلها..وهي الأعراض المختصة به ..كالألوان و الحركات و السكنات و الأخذ في الجهات.
وكالحياة التي هي شرط لوجود العلم والقدرة وجميع صفات الحي من الإدراكات.
فأما الشرط للعبادات الشرعية ..لا يجب كونه مع مثله شرطاً أبدا ..
وكذلك جميع ما جُعل شرطا لعبادة من الأمكنة و الأزمنة كمكان الاعتكاف وهو المسجد ..ومناسك الحج ..وأوقات العبادات ..وأوصاف المكلَّفين ..فلذلك لم يجب كون شروط العبادات مأخوذة من الشروط العقلية ..فاعلم ذلك ..واجتنب التعويل على أخذ إيجاب الدوام للشروط الشرعية ..مِن إيجاب ذلك في الشروط العقلية .
فصل :
الأمر بالشيء نهيٌ عن ضده معنىً ..وذلك أنه لا يتحقق المأمور ذو الضد الواحد إلا بترك أضداده ..كالمأمور بالسكون لا يمكنه ذلك إلا بترك الحركة ..أو بالقيام ..فلا يمكنه الامتثال إلا بالكف عن الجلوس و الاضطجاع اللذيْن هما ضد القيام ..
والأمر يقتضي ثلاثة أشياء :
اعتقاد الوجوب.
و العزم على الفعل .
و فعل المأمور.
فصل : الخطاب من الله سبحانه لمن خاطبه من خلقه :
اعلمْ أنّ الخطاب من الله سبحانه لمن خاطبه من خلقه من ثلاثة طرُق :
سماع منه سبحانه بلا واسطة ..كخطابه موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم .
وخطاب بواسطة الملَك ..كخطابه لجماعة من الأنبياء صلوات الله عليهم ..
وكل ذلك حروف وأصوات تنتظم عنى الخطاب ..الذي هو استدعاء لفعل أو ترك أو إخبار عن ماض أو مستقبل ..ملقى من لدن الله جلّت عظمته ..أو من الملَك على ما نطق به الكتاب العزيز ..
والثالث : ألقيَ الى قلوب الرسل ..إما إلهاما في اليقظة ..وإما مناما ..
والثلاثة اجتمعت لنبينا (ص)..قال ه كفاحا و سماعا منه بلا واسطة (أمن الرسرل بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون)..كما في الحديث..
وقال له بواسطة جبريل : (اقرأ باسم ربك الذي خلق )..
وقال مما ألقاه في روعه ..(نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين)
فصل :
لِقبول القول والثقة الى الراوي ..لابد -توفّر - السلامة من المعاصي ..ولسنا نعتبر السلامة مِن أن تكون وقعت رأساً ..بل نعتبر أن لا يكون مُصِرّاً ..وأن يكون تائبا متنصِّلا لِنثقَ الى خبره ..ونعوذ بالله أن يقال : لا يخلو عبد من عباد الله عن الإصرار ..حتى الأنبياء عليهم السلام ..لكن لا يخلو أحد من وقوع عصيان ..لكن يزيله و يجُبُّه الإستغفار..كما كان في حق الأنبياء ..
فصل :
إن قيل :إبراهيم عليه السلام ..كذب ثلاث كذبات ..على ما صحّت الرواية عنه : قوله -هذه أختي - وهي زوجته ..وقوله : (بل فعله كبيرهم هذا) وما فعل الصنم شيئا..وقوله : (إني سقيم ) ولم يكن سقيما..
قيل :
ذلك من المعاريض ..وقد قال النبي (ص) : (إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب)..ووجه ذلك أنّ قوله : (إني سقيم ) من قولكم وكفركم ..و-هذه أختي - في الإسلام ..و (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) فعلّقَ الفعل ولم يحْتِمه ..
هذا المذكور في تفاسير المحققين الذين اجتهدوا في تبرئة الأنبياء بجهدهم .
فصل : التحسين والتقبيح
المعوّل في التحسين والتقبيح على الشرع لا على العقل ..فالعقل محكوم عليه لا حاكم في هذه القضايا ..
والدلالة على ذلك أن القائلين بتقبيح العقل -كالبراهمة -..قبّحوا إيلام الحيوان وإتعابه ..وحسّنوا منه ما لا يمكن دفع الأضر عنه والألم إلا به ..وهو الأقل الذي يضطرّ إليه لدفع الأكثر ..كالفصد والحجامة ..وقطع المتآكل .. وأجمعوا على تقبيح ما استُغني عنه .
ثم إنّ الشرع أباح الإيلام لا موقوفاً على هذا .. إذ لا ضرورة الى الإيلام بل هو غنيّ عنه ..وأجمعنا على أن الشارع يؤلم مِن غير حاجة ..وأنّ ذلك حسن ..فبطل تحسين العقل و تقبيحه .
فصل : محلّ العقل :
محلّه القلب ..لقوله تعالى : ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ) ..وقال : ( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب )..وقال عمر في ابن عباس : له لسان سؤول وقلب عقول .. وإضافة العرب الشيء الى الشيء إما لكونه هو هو ..أو مكانَه .. وليس القلب عقلا بإجماع .. لم يبق إلا أنه محلّ العقل ..بإضافة الشيء الى محله .. ومن خلق العقل أعلم بمحله .. ( ألا يعلم من خلق )..فلا التفات الى قول من يقول (إن محله في الرأس).
فصل:أخبار الآحاد إذا جاءت بما ظاهره التشبيه
أخبار الآحاد إذا جاءت بما ظاهره التشبيه ..يجب قبولها حيث تلقّاها أصحاب الحديث بالقبول ..ويجب تأويلها لنقضها على ما يدفعها عن ظاهرها ..وإن كان من بعيد اللغة و نادرها ..وهذا هو اعتقادنا ..
والدلالة على وجوب قبولها : أنّ رواة هذه الأخبار ..والمتلقّن لها بالقبول ..هم العدول الذين رضينا بهم في إشغال الذمم الخالية من الحقوق و الأموال و الديون ..وأرقنا بهم الدماء المحقونة ..وأبحنا بهم الفروج المعصومة ..فلا وجه لرد أخبارهم مع إمكان تأويل ما جاؤوا به..وعدمِ استحاله التي توجب كذبَهم..لاسيما وقد عضد ذلك ما جاء في كتاب الله عز وجل مما يوجب ظاهرُه التشبيه ..كذكر اليدين ، والوجه ، والمجيء ، والإتيان ، والإقراض ، مع وصفه نفسَه بأنّ له كل شيء ، فقال : (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه ) ..وإضافة الاستهزاء والمكر والأذية إليه ، بقوله تعالى : ( يؤذون الله ورسوله )..وظواهر هذه الألفاظ كلها مستحيلةٌ على الله سبحانه..فحُمِلت بالتأويل على أذية رسوله..والاقتراضِ من الأغنياء من خلقه للفقراء ..فعبّر عن الفقراء بنفسه ..وعلى هذا كل ما جاءت به الأخبار ،مستبعداً من الشرائع وكتبها و رموزِها ومقدَّراتها و محذوفها و زائدها ..وسرُّ ذلك : أنه قصد امتحان العلماء ..ليجهدوا أنفسَهم باستخراج التأويل الصارف لها عن الظواهر التي تقتضي التشبيه بالنصوص التي في كتبه ..وبأدلة العقول التي منحهم ..
ولمعنى آخر و أدقّ ..وهو أن الله سبحانه علمَ أن أكثر الناس عبدوا المحسوسات ..وأنِسوا بها ..لمكان المجانسة في الحدث و الحسن ..فقوم عبدوا النجوم استحسانا لها ..ونظراً إليها بعين البقاء و الدوام ..ثم التأثيرات على ما توهّموه من الأحكام..وأضافوا الى كل نجم أمرا من الأمور من المنافع و المضار و الشرور و اتفاق الأمور ..وجعلوا جميع ما يحدث في العالم السفلي إنما بتأثير عنها ..وقوم عبدوا النور و الظلمة ..وأضافوا الخير الى النور ..والى الظلمة المضار والشرور ..وقوم عبدوا الملائكة ..وقوم عبدوا الأشخاص كعيسى و عُزَير ..وقوم عبدوا بعض البهائم كالبقر ..وقوم عبدوا الديكة ..وقوم عبدوا الحجارة المشكَّلة ..وكل من استحسن شيئا عبده..أو كلِفَ بشيء عظَّمه ..فأنست نفوس العالم الى المحسوس المقطوع بوجوده من طريق المشاهدة ..
فلو جاءت الشرائع بالتنزيه المحض ..لجاءت بما يطابقُ الجحدَ والنفي .. فلو قالوا : صِفْ لنا ربنا ؟ ..فقال : لا جسم ، ولا عرَض ، ولا حامل ، ولا محمول ، ولا طويل ، ولا عريض ، و لا بشاغل لمكان ولا لجهة من الجهات الست ، ولا متلوِّن ، ولا ساكن ، ولا متحرك ، ولا راض ، ولا غضبان ، ولا يحب ، ولا يبغض ، ولا يريد ، ولا يكره .. و لا يتخيَّل في النفوس ، ولا له صورة في القلوب من داخل ، ولا يدركه الإحساس من خارج ..لقالوا له : فهات حُدَّ لنا النفي ..بأن تميِّز ما تدعونا الى عبادته على النفي ..وإلا علمنا أنك دعوتنا إلى عبادة عدم ..وعيّرتنا بعبادة أشياء موجودة ..تأثيراتُها محسوسة ..فهذه الشمس تنضج الثمار، و تجفّف الحبوب ، وتعدل الأمزجة ..وهذه النجوم تؤثر الاهتداء و الاستضاءة ..وهذه الرياح تؤبِّر اللقاح ..وأنت قد أتيتنا بمحض النفي و العدم ..تدعونا الى تعظيمه ..فلما علم ذلك سبحانه بالعلم الإلهي ..والخالق أعلم بما خلق ..جاءهم بأسماء يعقلونها ..وصفات تعطي بلوغ الأغراض ..كل صفة تؤثر معنى من منافعهم ..فسميعٌ يعطي سماع أدعيتهم ..وبصيرٌ يعطي النظر الى ما يعرض لهم ..و رحيمٌ للتحنّن عليهم ..وغضبان يوجب الانتقام من المسيء المخالف لما وضعه من الشرائع لمصالحهم ..والى أمثال ذلك .
فصل: قال بعض المحققين في التحسين و التقبيح :
قد يشتبه على قوم ما تُوجِدهم رقةُ طباعهم والإشفاق منهم على الحيوان فيعتقدون كل مؤلم و لاذع قبيحا ..ويتغطى عليهم وجه الحسن و القبح ..بمعتقدهم أن كل منكر في طباعهم صدرَ عن العقل ..وهذا عين ما ذهبت اليه البراهمة في تقبيح ذبح الحيوان وإتعابه في الأغراض ..وبئس المحكِّم الطبعُ ..فكم مما نهشّ اليه وهو مستقبَح ..و كم من موجع وهو مستحسن ..لما فيه من المصالح ..كما قال سبحانه : (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا )..وربما دق الفرق بين إنكار الطبع وإنكار العقل ..
وكل حكيم من خلقه قد تُؤَلِّم أفعالُه وإن لم تكن قبيحة .
فصل: الجنس :
الجنس جملة متفقة متماثلة .. و الجنس الواحد ما سدَّ بعضه مسد بعض ..و قام مقامه ..أو بأن لا يجوز على أحدهما شيء إلا جاز على الآخر مثلُه و نظيره ..ولذلك لم يجز أن يكون الله مثلا لشيء ..ولا شيء مثلا له ..إذ لو شابه المحدَث من وجه ..لجاز عليه من ذلك الوجه ما يجوز على المحدَث من ذلك الوجه .
مثاله عند الأصوليين : الجوهر جنس واحد من حيث هو جوهر على الحقيقة ..فما جوهر إلا ساد مسد جوهر في خصائصه من شغل الحيز وحمل العرض كاللون و الحركة و السكون .
فصل: الطبع :
الطبع عند الفائلين بإثباته : هو الخاصة التي يكون الفعل بها من غير جهة القدرة ..وليس عند أهل الإسلام حادث يحدث من غير جهة القدرة ..لأن الحوادث خلق الله سبحانه ..فلم يبق لغيره حادث يصدر عنه.
وإنما قلنا : من غير جهة القدرة ..لأن ما يقع بالقدرة يقع بالتمييز ..لأن القدرة لا تقوم الا بمحل فيه اختيار..أو تكون صفة لمختار .. وقد أكذب الله سبحانه أهل الطبع بقوله : ( وفي الأرض قطع متجاورات..) الى قوله : (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل )..ولو كان الماءُ يعطي النباتَ الطوباتِ بالطبع الذي أثبتوه، لأعطاها رطوبة خاصة ذات طعم خاص ..لاستواء أجزاء الماء في نفسه ..فلما اختلفت الطعوم مع اتحاد الماء و التربة ..عُلم أنه لم تأت النبات من جهة الطبع ..لكن من جهة اختيار الصانع الطابع ..ولأن الطبائع تتباين لتضادِّها ..وقد اجتمعت في الحيوان ..ولا يجمع المتنافِر إلا قاسر قاهر..وليس إلا المختار القادر سبحانه .
إذا ثبت أن لا طبع ..فلا بد أن نكشف عن وجوه الاضافات ..ونعطي كل شيء حظه ..حتى لا يعطى ما ليس بفاعل منزلة الفاعل ..ولا تعطى الآلات حقَّ الأسباب .. و لا يُبخَس الفاعل حقه من الفعل ..فهذه مهاوي هام الكفرة الى هوّة الإلحاد ..ومزلّة أقدام المهملين لأصل الاعتقاد ..
فاعلم أن إضافة الفعل الى الشيء تكون من وجوه كثيرة :
أحدها : إضافة الفعل الى وقته..وهو ظرف زمانه..كقولك : نبتَ المرعى في الربيع..
وإضافته الى المكان : كقولك : أرض زكية مُنبتة..
وإضافته الى الآلة : كقولك : نحتَ الخشبةَ القدّومُ..فهذا المفعول به ..فالمحل منحوت..
والمحل المفعول شرط أيضا لايقاع النحت فيه ..وهو الرابع..
والخامس : السبب ، وفيه وقع الخلاف ..فلا فاعل للريّ ولا للشبع ،ولا إخراج الصفراء، و لا تبريد ولا تسخين، و إحداث طَعم ،وإنشاء لون، وإيجاد خاصة، إلا الله سبحانه .
فصل في اختلافهم في الطبائع :
منهم من جعلها موجبة للفعل ، كالاعتماد الذي في الحجر يوجب ذهابه الى جهة ، والفاعل غيرُها في الحقيقة .
ومنهم من جعلها فاعلة في الحقيقة ، وهم أهل الطبع .
ومنهم من جعلها مفعولا بها ..مثل : ما يفعل القطعُ بالسكين .
ومنهم من جعلها مفعولا عندها ، وهو مذهب أهل السنة ، وهو مذهبُنا.
وقد أشار الله سبحانه الى المذهب الأخيرفي كثير من الأفعال..واكتفى بذلك بياناً للعاقل ..وتنبيهاً له على باقيها ..فقال في حق عيسى: ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طائرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني )..وإذا أخرج عيسى أن يكون فاعلاً ..وجعل له الفعل سبحانه..فلا موجود إلا عن فعله وخلقه..لأنه لو اختص شيءٌ من خلقه بفعل يكون منه وعنه..لكان الأخص بذلك الأنبياء عليهم السلام الذين أيّدهم بما خصهم به من خرق العادات شهادةً لهم بالصدق..وقال سبحانه : (الله خالق كل شيء ) ..فلم يبق شيء من جسم ولا عرَض يضاف خلقُه الى أحد سواه..ولأنه أضاف الى الأشياء إضافات ..وأضاف الى نفسه مثلها ..فقال في العسل : (فيه شفاء للناس ) ..وقال : (وإذا مرضت فهو يشفين )..فالأحقّ أن يكون الشفاء حقيقةً مضافاً الى الخالق سبحانه ..والعسلُ يكون عنده الشفاءُ ..والماء يوجَد عند نزوله الإنباتُ ..والمُنبِتُ حقيقةً هو الله سبحانه ..فإنه سبحانه يقول : (فأحيينا به ) ..(ينبت لكم به الزرع والزيتون ) .. ( فأنبتنا به) ..يعني : أنبتنا لكم عنده ..وقد أضاف الله سبحانه الإضلال الى الأصنام والسامريّ..والضلالُ فيهم لا بهم .
ومن دلائل العقول..أن الطبائع عندهم هي الفاعل الأول..وليس فوقه عندهم من هو أعلى..وقد وجدنا هذه الطبائع مقهورة مكسورة ..حيث جُمِعَ المتنافرُ منها والمتضاد في الحيوان والنبات ..وكما أن أهل الطبع أثبتوا له الفعل .. فقد أثبتوا له المضادة والمنافاة ..فإذا اجتمع مع أضداده في هياكل الحيوان والنبات ..عُلِمَ أن المضادّة فيه لا من طريق الطبع ..وإنما هو بوضعِ واضعٍ..تارة يفرّق بينها بالانحلال..وتارة يجمع بينها إذا أراد الاجتماع..والله أعلم .
فصل :الأحكام الشرعية :
الأحكام : القضايا .. هنا قضايا الشرع .
وحكم العلة و القياس : قضاء الشرع المستَنبط ..فيمتاز عن أحكام الشرع الثابتة بالظواهر والنظر بهذا الوصف ..
فالإباحة : إطلاق الشرع ..
وقيل : إذن الشرع بالمباح المأذون فيه شرعا ..
والأول أصح ..لأنه لا يدخل عليه فعل الصبيان و المجانين .. إذ لا يوصف الشرع بأنه أطلق أو أذن في أفعالهم ..
و الحظر : منع الشرع ..
و الفرض : ما ثبت إيجابه بنصّ أو بدليل قطع ..
والندب : قال من جعله أمراً حقيقة : هو استدعاء الأعلى الأدنى بالفعل على وجه الأولى ..أو على وجه لا يأثم بتركه .
والمكروه : استدعاء الترك على وجه لا مأثم في فعله ..وهو من مرتبة النهي المطلق الحاظر بمنزلة الندب من الإيجاب ..
المشكوك : الصحيح عندي أنه ليس بمذهب ..وإنما هو متردد في النفس بين أمرين لا يرجح الى أحدهما ..
والوقف : قيل مذهب .. لأنه يفتي به ..ويدعو إليه ..ويناظر عليه..ويجب على القائل به إقامة الدليل عليه ..
وهو الأصحّ .
فصل: بيان الأدلة التي تستند إليها الأصول :
الدليل : هو المُرشد الى المطلوب .
المستدِل : هو الدالّ ..
و الاستدلال : طلب المدلول .
وقال قوم : الدليل هو الفاعل للدلالة ..
وليس بصحيح ..لأنّ الله سبحانه خلقَ الدلائل ..ولا يُطلق عليه اسمُ دليل .
..
الأول من الأصول - وهي الأدلة التي انبنت عليها أحكام الفقه - هو :
الكتاب : ودلالته ستة أقسام : ثلاثة من طريق النطق ..وثلاثة من جهة المعقول من اللفظ ..فالتي من جهة النطق : نصّ ، وظاهر ، و عُموم ..والمعقول : فحوى الخطاب ، و دليل الخطاب ، ومعنى الخطاب .
فالنصّ : ما بلغ من البيان غايته ..مأخوذ من منصّة العروس ..
والظاهر : ما تردّد بين أمرين ..وهو في أحدهما أظهر .
والعموم : ما شمل شيئين فصاعداً شمولاً واحداً .
..
والظاهر ضربان : ظاهر بوضع اللغة ..وظاهر بوضع الشرع .
فالظاهر بوضع اللغة ..كالأمر يحتمل الندب و الايجاب لكنه في الايجاب أظهر ...وحكمُه أن يُحمَل على أظهر محتَمليه ..ولا يُصار الى غيره إلا بدليل .
وأما الظاهر بوضع الشرع ..كالأسماء المنقولة من اللغة الى الشرع ...
..كالصلاة في الأصل اسم للدعاء ..ونُقلت في الشرع الى هذه الأفعال المخصوصة ..وحكمُه أن يُحمَل على ما نُقِل اليه في الشرع ..ولا يُحمَل الى غيره إلّا بدليل .
فأما العموم فألفاظه أربعة : 1-أسماء الجموع : كالمسلمين والمشركين والأبرار والفجار ..2-الاسم المفرد إذا عُرّف بالالف و اللام ..كالرَّجل و المرأة والمسلم و المشرك..3-الأسماء المبهمة ك(مَنْ) فيما يعقل ..و(ما) فيما لا يعقل ..و(أين) في المكان ..و(متى) في الزمان...4-النفي في النكرات ..كقوله : لا رجل في الدار..ولا يُقتَل مسلم ..فحكمه أن يُعمَل به و يصار إليه ولا يخص إلا بدليل .
وأما معقول اللفظ فثلاثة أيضا : فحوى الخطاب ، و دليل الخطاب ، ومعنى الخطاب .
فأما الفحوى ..فقد قال قوم : هو من معقول اللفظ ..وهو أن ينص على الاعلى وينبه على الأدنى ..كما نبّه على الإئتمان على الدينار
بالإئتمان على القنطار ..ونبه بنفي الإئتمان على القنطار بنفي الإئتمان على الدينار ..وكنهي النبيّ (ص) عن التضحية بالعوراء تنبيها على العمياء ..فحكم هذا عندنا حكم النصّ ..
وأما دليل الخطاب : فهو تعلٍّق الحكم على أحد وصفَيْ الشيء ..وعلى شرط أو غاية ..فيدل على أنّ ما عداه بخلافه ..كقوله تعالى : (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن)..فيدل على غير الحامل لا نفقة لها ..
وأما معنى الخطاب : فهو القياس ..
وحدّه هو : جمعٌ بين مُشتَبهيْن بالنظر لاستخراج الحُكم .
وقيل : هو حمل فرعٍ على أصلٍ بعلّة جامعة ..وهذا فيه نوع تخصيص بقياس العلة .
والأجودُ أن يقال : شرائطُه مؤثِّرة ..وإجراء حكم الأصل على الفرع وهو على ضروب ...
وأما السُّنّة ..فدلالتها من ثلاثة أوجه : قول ، وفعل ، و إقرار.
فالقول ضربان : مُبتدأ..وخارج على سبب ..
فالمبتدأ نقسم الى ما انقسم اليه الكتاب من النص و الظاهر والعموم .
..
والخارج على سبب ..ضربان :مستقل دون السبب ..كقوله - جواب قولهم : إنك تتوضأ من بئر بُضاعة ..وهي تُطرح فيها المحائض ..ولحوم الكلا ب..وما يُنْجي الناس - : ( الماءُ طَهورٌ لا يُنجسه شيء)..فحكمُه أن يصار إليه كما يصار الى المبتدأ ..ولا يُخَص ولا يُقصَر على سببه ..
والضرب الذي لا يستقل دون سببه ..كما رُوي أنّ أعرابيا قال : (جامعتُ في نهار رمضان )..فقال : (أعتقْ رقَبة )..فنصُّ قوله مع السبب كالجُملة الواحدة ..فكأنه قال : إذا جامعتَ فاعتق رقبة .
وأما الفعل ..فضربان :
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الاحياء منهم والاموات
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
منتدى انور ابو البصل الاسلامي
https://anwarbasal.yoo7.com/