بقلم الأستاذ هشام طلبة
باحث وكاتب إسلامي متخصص في البشارات
بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في كتب أهل الكتاب نوح هو أول الرسل وهو أبو البشرية الثاني أو كما سماه بعض المفسرين آدم الثاني. وقد سماه الله من قبل عبدًا شكورًا وذكر في كتاب الله ثلاث وأربعين مرة. وقصته في القرآن هي الأكثر ذكرا بعد قصص موسى وإبراهيم.
كذلك تذكر قصة نوح والطوفان في عدد كبير من الأسفار القديمة السابقة للقرآن. فكما هو معلوم أنها ذكرت في التوراة فإنها ذكرت كذلك في كتب العقائد اليونانية القديم ( الثيوجونيا على الأرجح ) حيث ( يذكر أن أولاد " إيبيميتيه" و"بادور"(آدم وحواء) قد غضبت عليهم الطبيعة فأرسلت عليه طوفان أغرقهم جميعًا إلا "دوكاليني" وزوجه "بيرها" فقد هداها "بروتييه" إلى صنع سفينة مخرت بهما عباب الطوفان حتى رست على جبل برناس وظلا على قمته حتى أقلعت السماء وبلعت الأرض ماءها )(1).كما تذكر القصة في كتاب "الفانديداد" المقدس عند الزرادشتية (المجوس) يزداد فيه حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين(2). نجد قصة نوح أيضًا في الكتب البابلية القديمة حيث يسمى نوح باسم آخر هو "أترهاسيس" الذي ينجو هو وعائلته فقط من الطوفان(3) بركوب السفينة التي ترسو على جبل الجودي(4) تمامًا كما ذكر في القرآن الكريم. بل لا نكون مبالغين لو قلنا إنه لا يكاد يخلو شيء من أدبيات التراث البشرى لأي شعب من ذكر لتلك القصة ، وقد يكون ذلك من بقايا الحق.
* قال ربنا عز وجل : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر:24].
وبحثنا هذا يهتم بنواحي الإعجاز المختلفة في هذه القصة في القرآن الكريم. فعلاوة على الإعجاز البياني – وهو أصل الإعجاز القرآني – وجدنا ثلاثة أنواع من الإعجاز في قصة نوح في القرآن الكريم، مقارنين إياها بما ورد عن نوحٍ في الكتب سالفة الذكر.
وفي عقب جدول هذه المقارنة نذكر ما يستنتج منها.
إذًا وجدنا عناصر القصة القرآنية مشتتة في عدد لا حصر له من كتب الأولين. مع أن عدد هذه الكتب كبير جدًّا. وللكتاب الواحد أكثر من نص. فالتوراة نفسها لها ستة نصوص أساسية ( اليشيتا – الفولجانا – السبعينية – السامرية – الترجوم – القياسية العبرية ) هذا عدا العديد من هذه النصوص مستعينًا بعلم يسمونه علم نقد النصوص ليصل إلى نص أقرب ما يكون للنص الأصلي المفقود(28). سنجد دائما تلك القرائن مع أن هذه الكتب كتبت بلغات مختلفة كالعبرية واللاتينية واليونانية والآرامية والمندائية وغيرها.
مع أن هذه الكتب نجدها مرة واحدة بل جمعها أصحابها على مدى قرون منذ القرن الرابع حتى الآن. أغلب هذه الكتب وجدناها كمخطوطات بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقرون. أي أن هذه الكتب لم تصبح معروفة لنا إلا عبر وقت طويل جدًّا.
مع أن هذه الكتب لم يجدها أصحابها في مكان واحد. بل في أماكن متعددة كسيناء ونجع حمادي وكهوف البحر الميت ومكتبات نبلاء أوربا.
مع أن هذه الكتب كانت نادرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النسخ كان يدويًّا ، ولم تكن هناك طباعة ، وكذلك لحرق كتب أتباع الملل من الأباطرة.
مع أن حجم الكتب أيامه صلى الله عليه وسلم كان كبيرًا أو على هيئة قراطيس يستحيل تداولها سراً.
مع أن جزءً كبيرًا من هذه الكتب كان أسرارًا لا يسمح بتداولها إلا بين علماء كل طائفة. هذا عدا المخطوطات التي لم نجدها إلا في القرن الحالي. هذه الطائفة من الكتب يسميها علماء اللاهوت كتب "الأبوكريفا" Apocrypha وهى تعني في حرفيتها الكتب "المخفية" أو كتب "الأسرار" والمصطلحات وردا في القرآن الكريم فيما يلي:- { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }[المائدة:15].
{ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان:5 ، 6].
سنجد تلك القرائن دائمًا منطقية مع أن هذه الكتب تعج بتفاصيل غير منطقية.
في القصة التي نحن بصددها ( قصة نوح ) سنجد قسمًا منها في التوراة التي بين أيدينا الآن مع وجود تفاصيل في التوراة لا نجدها في القرآن كذكر سبب أسطوري لعقاب الطوفان وهو زواج أبناء الله (بعض الملائكة) من بنات البشر !! وكسكر نوح وتعريه ! وكذكر سجل مواليد نوح وأحفاده ! وعلاقة الميثاق بألا يكون على الأرض طوفان آخر وهو قوس قزح !
{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا }[النساء:82].
ما مدلول ما ذكرناه من تشتت عناصر قصة نوح في هذا العدد الضخم من الكتب السابقة ؟ هذا ما سماه القرآن الكريم الإعجاز الغيبي. وقد قال تعالى في آخر قصة نوح في سورة هود : { تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ {49} }[هود:49].
إذ آنى لآمي يسكن الصحراء في ذلك العهد أن يطلع على تفاصيل لم يعرف المعاصرون أغلبها إلا متأخرا جدا.
صلى الله وسلم وبارك على ذلك النبي وردَّ كيد من انتقص من قدره
{ وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }[يونس:37].
والله من وراء القصد
ونحن في انتظار رسائلكم وتعليقاتكم