قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم هي أحسن القصص؛ كما أخبر بذلك رب العالمين في كتابه العزيز. ولكن هناك بُعد جمالي معجز آخر في هذه القصة لم ندركه إلا بمقارنة ما ورد من مادة قصصية في القرآن الكريم وما ورد في كتب أهل الكتاب، فبضدها تتميز الأشياء ؛ سواء منها ما يُتَعبَّد به كالتوراة أو ما ورد في المخطوطات المكتشفة حديثًا وكذلك النصوص المخفية "السوديبيجرافا"(1)Pseudepigraphaوالتي لم يطلع عليها إلا شديدي التخصص من علماء الدين عند اليهود أو النصوص القديمة مثل : - كتب " التلمود "(2) Talmud: وهو يعني في حرفية الكلمة التعاليم ، وهي تعاليم قدامى حاخاماتهم فيما قبل البعثة المحمدية . - وكتب الترجوم(3) Targum: وتعني الترجمات الآرامية للتوراة. - وكتب الميدراش( 4) Midrash: وتعني دراسات حول قدامى الربيين حول التوراة ، وهي سلسلة كبيرة من الكتب نختلف كثيرًا مع التوراة نفسها . ** وهذه الدراسة التي نحن بصددها تُعنى بمقارنة ما ورد في القرآن في هذه القصة بما ورد في الكتب سالفة الذكر.
ونرجو من القارئ الكريم أن يقرأ ما يمكن أن يستنتج من هذه المقارنة بعد استعراض الجدول الآتي: -
جدول قصة يوسف عليه السلام في القرآن الكريم
والتوراة والكتب الأخرى السابقة للقرآن
لماذا لم نجد في القرآن أيًّا من التفاصيل غير المنطقية التي مررنا بها في كتب اليهود على اختلاف أنواعها ؟
- أنى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم بعلم كل تفاصيل قصة يوسف عليه السلام المشتتة في هذا العدد الكبير من الكتب على اختلاف لغاتها ، والطوائف التي تنتمي إليها ، والزمان والمكان اللذان اكتشفت فيهما ؟
- هل من الممكن أن يكون النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن ؟
هذه الفرضية – افتراء القرآن من لدن محمد صلى الله عليه وسلم تقتضي الآتي :
1- تعلم صلى الله عليه وسلم القراءة سرًّا:
إذ أنه كان أميًّا واشتهر عنه ذلك عند العرب: { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) } [ العنكبوت ] .
2- تعلم صلى الله عليه وسلم لغات كتب أهل الكتاب على كثرتها سرًّا :
يقول الله تعالىوَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103) } [ النحل ] . 3- لم يَدَعْ صلى الله عليه وسلم صحيفة من صحف أهل الكتاب إلا وقرأها سرًّا :
مع أن هذه الكتب لم نجدها مرة واحدة ولا في مكان واحد .
- مع أن عدد هذه الكتب كبير جدًّا يستحيل الاطلاع عليها كلها من شخص واحد .
- مع أن حجم الكتب أيامه صلى الله عليه وسلم كان كبيرًا جدًّا وفي قراطيس يستحيل تداولها سرًّا .
- مع أن عدد النسخ من الكتاب الواحد كان قليلًا ؛ لأن النسخ كان يدويًّا ولحرق كتب أصحاب الديانات والفرق من الأباطرة .
- مع أن جزءًا كبيرًا من هذه الكتب كان أسرارًا لا يسمح بتداولها إلا بين علماء كل طائفة . هذا عدا المخطوطات التي لم نجدها إلا في القرن الحالي .
فهل كان لديه صلى الله عليه وسلم علماء للتنقيب عن المخطوطات !!! .
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) } [ المائدة ] .
{ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (6) } .[ الفرقان].
4- استبعد صلى الله عليه وسلم التفاصيل غير المنطقية من كل كتاب .
بالرغم من أن هذه التفاصيل تعج بها تلك الكتب ، فلم يحدث أن اتفق القرآن مرة في جزئية غير معقولة ، مع وجود تفاصيل كثيرة جدًّا بين القرآن وتلك الكتب . أي أنه صلى الله عليه وسلم قد أدرك أن هناك أناسًا متعلمون في القرن العشرين وما بعده سيقرؤون الكتاب ( القرآن ) وأدرك أنهم لن يستسيغوا إلا المنطقي فاستبعد من القرآن كل ما يتناقض مع العقل والمنطق !! { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82) } [ النساء] .
5 – أخذ صلى الله عليه وسلم يجمع التفاصيل من كل كتاب ما يستقيم مع الكتاب الآخر :
ثم عرض كل قصة في موضوع محدد ولغرض معين ثم عرضها في صورة بيانية معجزة بعد إضافة تفاصيل أخرى من عنده صلى الله عليه وسلم !! ، ثم وضعها في موضعها المناسب في القرآن ، بل وتحكم في مشاعره الإنسانية حيث تختلف الحالة الوجدانية لكثير من السور مع حالته النفسية صلى الله عليه وسلم حال نزولها ؛ مثل سورة النور التي نزلت في حادث الإفك حيث اتهم صلى الله عليه وسلم في عرضه . كان المتوقع أن يكون جو السورة حزن وغضب ؛ فإذا بها تسبح بقارئها وسامعها في جو من السلام والروحانية والنور .
6 – أضاف صلى الله عليه وسلم إلى كتابه ( القرآن ) نبوءات بالغيب في أمور عدة :
مثل أدائه وأصحابه لعمرة القضاء ، وكالتنبؤ بانتصار الروم مثلًا على الفرس ( سورة الروم ) !! في وقت كانت هذه النبوءة أبعد ما تكون عن التحقيق وخاطر بدعوته مخاطرة حاسمة ؛ مثل ذلك أيضًا التنبؤ بانتصار الإسلام وتمكينه من أكبر قوى الأرض في ذروة الضعف والاضطهاد للمسلمين .
7 – كما أضاف صلى الله عليه وسلم تفاصيل من العلوم الكونية لم نعلم نحن أغلبها إلا متأخرًا جدًّا (15) .
8 – علم صلى الله عليه وسلم صفات وألقاب النبي المنتظر عند أهل الكتاب فخطها في القرآن لنفسه ثم تحكم في مصير حياته حتى تطابق صفاته صفات ذلك النبي !!! (16).
*** إن هذا هو المستحيل بعينه .
* ويجدر بنا أن نختم عملنا هذا بكلمتين :
الكلمة الأولى : عن قصة يوسف في القرآن ( التي هي موضوعنا الأساسي ) بعد مقارنتها بمثيلتها في التوراة (17) :
( إن سوق التاريخ واحد تمامًا في كلا الروايتين، ومع ذلك فإن التأمل السريع يكشف لنا عن عناصر خاصة تميز كلتيهما على حدة ، فرواية القرآن تنغمر في مسحة روحانية نشعر بها في صفات الشخصيات وكلماتها التي يتحرك بها المشهد القرآني ، فهناك قدر كبير من حرارة الروح في كلمات يعقوب ومشاعره في القرآن في التعبير عن يأسه عندما يعلم باختفاء يوسف ، كما تتجلى في طريقته في تصوير أمله حين يدفع بنيه إلى أن يتحسسوا من يوسف وأخيه ، وامرأة العزيز نفسها تتحدث في الرواية القرآنية بلغة تليق بضمير إنساني وخزه الندم ، وأرغمته طهارة الضحية ونزاهتها على الاستسلام ؛ فإذا بالخاطئة تعترف في النهاية بغلطتها ، وتقر بخطئها ، وفي السجن يتحدث يوسف بلغة روحية محلقة، سواء مع صاحبيه، أم مع السجان ، فهو يتحدث كنبي يؤدي رسالته إلى كل نفس يرجو صلاحها ) .
الكلمة الثانية : عن القصص القرآني على العموم :
من الأسباب التي تجعل القصص القرآني أحسن القصص أن غيره إما واقعي أو خيالي ؛ فإن كان خياليًّا فإنه لا يصلح أن يكون هاديًا ولا موجهًا ، ولا يصلح أن يكون ميزانًا يوضع فيه كل شيء في محله ، من عواطف وعقلانيات ، وغير ذلك ، وإن كان واقعيًّا فقد يغيب بعضه أو يزاد عليه ، أو لا يكون مغطيًا للموضوع بما يشمل الزمان والمكان ، والغيب والشهادة ، والدنيا والآخرة .
" أما القصة القرآنية فنجدها قد استكملت ما لم يستكمل في غيرها ، هذا مع كونها جاءت بأبلغ عبارة ، وأعظم أسلوب وأوجز عرض ، هذا مع أنك تجد في كل آية من المعاني والتوجيهات والهداية ما لا يحيط به إلا الله الذي أنزله " (18).
ونحن في انتظار رسائلكم وتعليقاتكم
يمكن التواصل مع المؤلف:
جمهورية مصر العربية ـ مصر ـ القاهرة