قبل انتهاء الفصل الدراسي الاخير بأسابيع ، قررت زهرة الصغيرة الكف عن الذهاب الى المدرسة، فقد انهكها المعلم بنظراته و تحرشه بها كلما التفتت يمينا او شمالا، فينتهز الفرصة لعرضها أمام باقي الصبية ،ليعرضها للعقوبة القصوى ، يريدها أن تصرخ ألما من ضربه ، لكنها تتحداه في أنفة الرجال الاشداء و ترفض الانصياع و البكاء أمام أحد .
قررت زهرة يومها الانفصال عن الدراسة نهائيا ، فلا احد يهتم لما تعانيه من قبل ذلك المعلم الجاهل ، و قد ازرقت يداها و تحجر قلبها من وطأة الظلم .
-طبعا ، يعاملني بقسوة لانني يتيمة الاب ،و لو كان والدي الى جانبي ما اجترأ على لمس شعرة مني ، قالت زهرة ذلك و قد انفعلت بكلمات مفعمة و دموع غزيرة أمام أمها .
لم تبال الام كثيرا بما حصل لابنتها الصغيرة ، فهمومها اكبر من أن تلتفت لطفلة يعاقبها معلمها ، و كله في صالحها ، أليس هو يعلمها و يربيها ؟ لكنها أرادت كفها عن الشكوى، فكفكفت دمعها بصمت و وعدتها باصطحابها الى خالتها لقضاء فصل الصيف كله هناك .
فتحت زهرة فمها و عينيها في سرور و سارعت لتحضير حقيبتها في حينها كي لا تجد أمها مبررا لتغير رأيها .
كان الذهاب الى الريف عند خالتها منتهى الرجاء ، فهي من اعتنت بها في طفولتها و هي من فتحت عينيها على مرآها .
تحب زهرة الذهاب الى خالتها ، هناك تجد من يحبها و يلاعبها طول اليوم، بينما اخوتها يضجرونها باستمرار بلعبهم العنيف، حتى صارت ككيس ملاكمة الكل يضرب عليه بدعوى تعليمها أساليب القتال ،و قد ملت كل العنف الذي تلاقيه منهم و حنت الى لحظات من السكون و اللعب الهادىء .
ثم ان لخالتها زوجا لطيفا و تشعر بينهما بالأمان فهي الام و هو الاب و أولادهما الاخوة البدلاء .
وصلت زهرة و أمها الى بيت الخالة كريمة ، و غادرت الام مستأمنة ابنتها هناك .
كانت سعادة زهرة لا توصف وقد القت نفسها في رحب فسيح من الخضرة و لاعبت أولاد خالتها طول اليوم دون كلل أو نصب، و اتى المغيب سريعا لكنها رفضت الدخول الى البيت .
لاح من بعيد طيف جار لهم في مثل سن زهرة ، اقترب و سخر منها لانها تلاعب الصبيان ، فردت عليه بلكمة في وجهه ...لم يردها عليها ، و تفطنت زهرة أنه خشي على نفسه أن يتحالف أبناء خالتها كلهم ضده و يضربوه ضربة صبي واحد، فتحاشى الدخول في العراك و لكنه هدد بالانتقام قريبا .
شعرت زهرة ببعض الخوف يتسلل الى قلبها ، فقد بدا صادقا ...ربما يحرض اخوته ضدها ،ربما يتعرض لها بمفرده حين تكون بمفردها .
لم تكن زهرة تخشى العراك الفردي ، فقد اعتادته طيلة سنين ، تغلب احيانا و تغلب احيانا لكنها لا تبكي ابدا كي لا تذيق المنتصر عليها طعم النصر أبدا .
في الغد ، طلبت الخالة من زهرة شراء السكر من الدكان الوحيد القريب من بيت غريمها .
لم يكن من الممكن رفض طلبات الكبار ،لذا اضطرت زهرة اتخاذ طريق مختلف كي لا تصادف فتى البارحة .... اشترت السكر و عند الخروج من الدكان وجدت الصبي يتكىء على احدى الجدران الصغيرة ،و قد أمسك بحبل ينتهي طرفه الى رقاب ثلاثة كلاب كبيرة .
كان على زهرة اظهار شجاعتها أمام الصبي ، و ما كان عليها الهروب منه ،و الا اتخذها سخرية الى الابد .
مشت قربه بهدوء و قد ركزت ناظريها في ناظريه و كأنها تهدده ان هو تهور، و كأنها تتحداه و تؤكد عدم خوفها منه بينما بقي الصبي معلقا ناظريه اليها ممسكا بالحبل لا يفلته .
مرت زهرة خطوات بعيدا عن الصبي و ما أن التفتت الى الامام و قد أيقنت بالنجاة ،و اذا بها تسمع صوت الصبي و هو يدعو كلابه بعبارة :" تشوب لاح" أي اهجمـــــــــوا.
لم يكن هناك من وقت للتفكير و التدبير ، و هجمت الكلاب ثلاثتهم علي الفتاة الصغيرة ، و انسحبوا بعد أن مزق احدهم جزءا صغيرا من فخذها .
لم تصدق الفتاة ما حصل، و لا حتى شعرت بالالم ، كل ما كان هو الهلع ، و ذلك النزيف الغزير الذي أبى أن يتوقف .
لم تلتفت زهرة الى الصبي فقد حصل ما حصل و عادت الى البيت مشيا ،و لم يسعفها أحد ، و فزع الكل من منظرها و قد دخلت عليهم بعلبة السكرو ثيابها مليئة بالدماء .
ظنت الخالة أنه اعتدي عليها و كاد يغمى عليها و حمدت الله أنه كان ما كان، و أخذت زهرةالى طبيب الحي الذي رفض معاينتها خوفا من اصابتها بالكلب ، و اضطرت الخالة الى اعادتها الى البيت و قد استيقنوا جميعهم أنها هالكة لا محالة ان وافق ان يكون الكلب مصابا بداء الكلب .
نامت زهرة لساعات و أفاقت على فزع جديد حين رات الكساء الابيض قد استحال الى أحمر من فرط النزيف ، شعرت بالخوف من تانيب خالتها، و ألقت نظرة الى الجرح ،و لاحظت ان جزءا من اللحم قد سحب و كاد يتقطع ،و يصبح طعاما لآكله ،فاخذت قطنة صغيرة و ردت الجزء المقطوع الى مكانه ردا بسيطا فالتأم و خف النزيف من حدته .
مساءا جاءت أم زهرة و قد احمر وجهها ،و راحت تقبل ابنتها و تبكي ، كانت تلك المرة الاولى التي تشعر فيها زهرةة بحب أمها و اهتمامها ، لم تكن تعرف قبل هذا أن امها تخشى عليها و تخاف أن تفارقها لهذا الحد .
هرعت زهرة الى الغرفة المجاورة و بكت في صمت .
أعلنت أم زهرة الحرب على الكل ،بدءا بأهل الصبي- الذي تلقى ضربا مبرحا منهم- وصولا الى الطبيب و معاونيه الذين رفضوا تطبيب زهرة و التي كانت مسرورة بقوة أمها و تفانيها في الدفاع عنها .
غادرت زهرة الريف في اليوم التالي و لم تعد اليه حتى بلغت سن الرشد و لكن لم تغادر ذكرياته الجميلة مخيلتها أبدا ،أبدا