يقول الشيخ عن يوم العيد الذي قضاه في إندونيسيا: ذهبت أهيم على وجهي على غير هدى حتى بلغت ساحة كامبير (أي الاستقلال) وكانت قد نبتت فيه عشرون الف زهرة ملونة في ليله واحدة لا أعني زهرات الحقل ولكن زهرات البيوت كان البنات بنات جاوه (الحلوات لا الجميلات!)وأطفالهن يختلن في الثياب العجيبه الملونه بمثل زهر البستان وكان لهن أفانين من التسليات والالاعيب وكني كنت عن ذلك كله في غفله كنت أمشي بلا قلب لأن قلبي بعيد بعيد ،بعيد في المكان والزمان إنه يهيم في أوديه الماضي ويسرح على تلك السفوح الحبيبه من قاسيون التي حرمت الأن منها وأبعدت عنها وأخشى أن يحون أجلي قبل أن أعود إليها فأراها.
مشيت حتى بلغت حديقه لحظت أنها مرتع أطفال الأغنياء لما يبدو عليهم من أثار الترف والسرف،وكان على باب الحديقه عجوز ظهر عليها الكبر (رغم أن نساء جاوة لايكدن يشِخن أبداً) عجوز أثقل ظهرها حمل السنين وفي يدها بنت كأنها الفله المتفتحه جمالاً وطهراً في ثياب قديمه لكنها نظيفة وكانت تنظر إلى هذا العالم كأنه غريب عنها وكأن الله خلقها هي وجدتها من الطين وخلق أولاد الأغنياء هؤلاء من الزبد والحليب وكانوا يمرون بها لايلتفتون إليها ولايرونها ولو كانت هره صغيرة أوكانت كلباً في البلاد التي تأنس بالكلاب لوجدت من يمسح شعرها ويبسم لها.
وكان الأولاد يشترون أكف الشُّكلاطة من بياع هناك وكانت الطفله تنظر إليهم وهم يمزقون أوراقها ويأكلونها تنظر بعيون يلمع فيها بريق الرغبه المحرقه يعقبها خمود اليأس المرير. ثم غلبها الطمع فلكزت جدتهابمرفقها على استحياء حتى إذا ألتفتت إليها أشارت بغمزة من عينيها وحركة سريعه من يديها إلى الشُّكلاطة فتبسمت الجدة بعينيها ولكن مقلتيها كانتا تبكيان بلا دموع وقلبت يديها إشارة العجز والفقر.
هنالك عرضت لي فكرة حمدت الله عليها وأسرعت إلى تحقيقها هي أنني أشتريت أكبر كف من الشُّكلاطة وذهبتُ بها فوضعتها في حجرها هو وماكان في جيبي من مال. فنظرت إليه نظرة المشدوه ثم حولت بصرها إلى جدتها كأنها تستنجد بها تستشيرها:ماذا تعمل؟ فأشرق وجهها العجوز إشراقه سريعه كأنها بريق الشمس يسطع لحظه من خلال الغمام وأقبلت علي تقول كلاماً كبيراً باللغه الأندونيسية لم أفهم منه إلا (تريما كاسي بنجاوم عمر)أي:أشكرك الله يطول عمرك وقامت البنت تجر جدتها تهرب كما تهرب الهرة أعطيتها قطعة لحم تسرع خوفا أن تندم عليها فتعود فتنزعها منها حتى عجزت خطوات الجدة عن اللحاق بها وهي تتلفت إلي :هل ندمت فلحقت بها أسترد ماأعطيت؟ حتى غابت عن عيني.
لقد خسرت مبلغاً لا يجاوز ما أنفقه أجرة نزهة في سيارة أو ساعة أقعدها في مقهى لكني ربحت من اللذة مالا أجده في مئة نزهة ولا مائة مقهى أحسست كأن ماكان في قلبي من الضيق قد انفرج وماكنت من الكرب قد زال وأن نار الشوق إلى أهلي قد خمدت والمنظار الأسود رُفع عن عيني فرأيت بهاء الكون وبياض النهار ووجدت العيد.
لقد تعلمتُ أن السعادة ليست بالأموال ولا بالقصور ولا بالخدم والحشم ولكنها بسعادة القلب وأن أقرب طريق إلى سعادة القلب أن تُدخل السعادة على قلوب الناس وأن أكبر لذات الدنيا هي لذة الإحسان لاأقصج الريال الذي تلقونه للسائل ترمونه إليه وأيديكم عاليه ووجيهكم مقطبه ولسان حالكم يقول :انظر هوانك وعزنا وفقرك وغنانا بل إن الإحسان أن تُعطوا من قلوبكم لا من أيديكم وحدها فيكون المال في اليد والبسمه على الشفاه والكلمه الطيبه المواسية على اللسان .أنكم تُرجعون بذلك إلى الفقير كرامته التي أضاعها وإنسانيته التي أفتقدها وتردون عليه روحه والروح أثمن الجسد والكرامه والإنسانيه أفضل من أموال الدنيا كلها.
الذكريات ج6 ص 212-213-214
وكل عام وأنتم بخير..ولاتنسوا إدخال الفرح والسرور على الأطفال والمساكين