تحرير رأي ابن خلدون في انقسام مدارس أصول الفقه
اشتهر لدى كثير من المعاصرين أن ابن خلدون يقسم مدراس أصول الفقه إلى اتجاهين : الأول :مدرسة الفقهاء , ويمثلهم أتباع المذهب الحنفي , ويقوم منهجهم على تخريج الأصول من الفروع , والثاني : مدرسة المتكلمين , وهم كل من عدا الحنفية , ويعد الإمام الشافعي – عندهم - رائد هذه المدرسة , ويقوم منهجهم على تجريد الأصل من الفروع والاستناد في بنائها على المسندات العقلية([1]) .
وأكدوا على أن ابن خلدون هو أول من ذهب إلى هذا التقسيم([2]) , واستندوا في ذلك على مقالته الشهيرة التي أرخ فيها لنشأة أصول الفقه وتطوراته حيث يقول :" كان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالته المشهورة، تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس. ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها. وكتب المتكلمون أيضاً كذلك، إلا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه وأليق بالفروع، لكثرة الأمثلة منها والشواهد، وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية. والمتكلمون يجردون صور تلك المسائل عن الفقه، ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن، لأنه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم، فكان لفقهاء الحنفية فيها اليد الطولى من الغوص على النكت الفقهية، والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن..."([3]) .
وقبل أن نقوم بمناقشة هذه النسبة والتحقق من صحتها لا بد من التنبيه على أن تقسيم مدارس أصول الفقه إلى طريقة الفقهاء والمتكلمين كان مشهورا جدا قبل ابن خلدون , فقد توارد العلماء على ذكر هذا التقسيم , وتناقلوا التنبيه عليه , ومن أول من ذكر ذلك الباقلاني وأبو الحسين البصري وكذلك أبو يعلى في العدة والسمعاني وإمام الحرمين وابن تيمية والغزالي وغيرهم كثير .
وبينوا مقصودهم بهاتين المدرستين , أما الفقهاء فيقصدون بهم كل من بنى أقواله في أصول الفقه على أقوال إمامه أو على مقتضى النص الشرعي, سواء كان من الحنفية أو الشافعية أو المالكية أو الحنابلة , وأما المتكلمون فيقصدون بهم كل من بنى أقواله في أصول الفقه بناء على مقدماته الكلامية ومبادئه العقلية سواء الأشعرية منها أو الاعتزالية , ولا فرق في ذلك بين أتباع المذاهب الفرعية .
ومن أظهر التقريرات الدالة على ذلك : قول الباقلاني حيث يقول:"وقد صار المقصود من إطلاق المتكلم أنه المتكلم في أصول الديانات وأبواب النظر والمجادلة فيها .. وقد غلب استعمال الفقيه في العالم بأحكام أفعال المكلفين الشرعية دون العقلية دون غيرها من العلوم "([4]) .
ويؤكد هذا أنه حين يمثل للمتكلمين يذكر أئمة علم الكلام وحين يمثل للفقهاء يذكر أتباع المذاهب الفقهية , ومن ذلك : قوله في مسألة العموم إذا خص هل يصير مجازا :"وبه قال كثير من المتكلمين , منهم الجبائي وابنه , وقاله كثير من الفقهاء , من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنفية"([5]) , وهذا يدل على أنه لا يخص الفقهاء باسم الحنفية ولا يقصد بالمتكلمين كل من عداهم ([6]).
ونحن إذا تأملنا كلام ابن خلدون نجده لا يخرج عما هو معروف لدى العلماء قبله , ولكن البحث في تحرير مذهب ابن خلدون في انقسام مدارس أصول الفقه يتطلب أولا ترتيب أفكاره في الفصل الذي تحدث فيه عن نشأة أصول الفقه , فقد تحدث عن تاريخ التأليف في أصول الفقه , فبين أولا أن المتقدمين من السلف كانوا في غنية عن التأليف في أصول الفقه , فلما انقرض الصدر الأول , وانقلبت العلوم كلها إلى صناعة , احتاج الفقهاء المجتهدون إلى تحصيل القواعد والأصول التي تعينهم على استفادة الأحكام الشرعية من الأدلة , فكتبوا فيها فنا مستقلا سموه أصول الفقه .
وذكر أن أول من ألف فيه الإمام الشافعي في رسالته , ثم كتب فقهاء الحنفية ووسعوا القول فيما ذكره الشافعي , وشاركهم المتكلمون في التأليف في أصول الفقه , ثم عقد مقارنة بين طريقة الفقهاء وطريقة المتكلمين , ثم عرج على طريقة فقهاء الحنفية ونبه على ما فيها من الغوص في النكت الفقهية , وأكد بعد ذلك على أن الناس اعتنوا بطريقة المتكلمين , ثم قام بالتعريف بأصول الكتب التي ألفها المتكلمون في أصول الفقه .
وإذا رجعنا إلى كلام ابن خلدون وتأملنا سياقه وتركيب ألفاظه وترتيب أفكاره فإنا لا نجد فيه ما يدل على ما نُسب إليه من حصر مدارس أصول الفقه في اتجاهين أو حصر مدرسة الفقهاء في الحنفية وجعل الشافعي داخلا في نطاق مدرسة المتكلمين , بل نجد كلامه متوافقا مع من سبقه من العلماء في التفريق بين طريقة الفقهاء وطريقة المتكلمين , ولا نجده يخص الحنفية باسم الفقهاء , وإنما يقصد كان يقصد بالفقهاء المشتغلون بالفقه من سائر المذاهب , ويقصد بالمتكلمين كل من اشتغل بعلم الكلام وغلب عليه اعتماد مبادئه ومنطلقاته في تأصيل أصول الفقه .
ويتبين ذلك بالأمور التالية :
الأمر الأول : ما يدل عليه سياق كلامه من أنه يقصد بالفقهاء من كان مشتغلا بالفقه ومجتهدا فيه , والشافعي بلا شك من هؤلاء , فإنه ذكر أن الفقهاء المجتهدين احتاجوا إلى تحصيل قواعد أصول الفقه، لاستفادة الأحكام من الأدلة" فكتبوها فناً قائماً برأسه سموه أصول الفقه. وكان أول من كتب فيه الشافعي رضي الله تعالى عنه" , وهذا يدل بوضوح على أنه يرى أن الشافعي من أول الفقهاء الذي اعتنوا ببيان أصول الفقه , فكيف يقال بعد ذلك إنه يرى أنه خارج عن مدرسة الفقهاء ؟!
الأمر الثاني : أن ابن خلدون لم ينص على أن طريقة الشافعي مختلفة عن طريقة فقهاء الحنفية , بل ذكر أن الحنفية تحدثوا فيما ذكره الشافعي من أصول ووسعوا القول فيها , ولم يتعرض لقضية مخالفة الحنفية لمنهج الشافعي , فإنه قال عن رسالة الشافعي :" تكلم فيها في الأوامر والنواهي والبيان والخبر والنسخ وحكم العلة المنصوصة من القياس. ثم كتب فقهاء الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها" , وهذا لا يدل على أنه يرى أن منهج الحنفية مختلف عن منهج الشافعي , وغاية ما يدل عليه أن الحنفية اشتركوا مع الشافعي في بحث قواعد أصول الفقه متأخرين عنه في الزمن , وأن بحوثهم فيها كانت أوسع وأكثر .
الأمر الثالث : المتأمل في كلام ابن خلدون يجد أنه لم يخص الحنفية باسم الفقهاء , فإنه حين ذكرهم في سياق كلامه قيد قوله بفقهاء الحنفية , ولم يطلق القول بالفقهاء عليهم , ولما عقد المقارنة بين طريقة الفقهاء وطريقة المتكلمين , أطلق لفظة الفقهاء ولم يقيدها بالحنفية , وهذا يدل على أنه يقصد بهم كل من اشتغل بالفقه سواء كان من الحنفية أو من غيرهم كما يدل عليه سياق كلامه في أوله .
الأمر الرابع : أن ابن خلدون حين شرح طريقة المتكلمين قال :" يجردون صور تلك المسائل عن الفقه، ويميلون إلى الاستدلال العقلي ما أمكن، لأنه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم" , وهذا يدل على أنه يقصد بهم طائفة معينة اتخذوا علم الكلام صناعة , وقد عرف علم الكلام فقال في تعريفه:" وهو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية، بالأدلة العقلية"([7]) , وهذا الوصف غير منطبق على منهج الشافعي , فإنه لم يجرد قواعده من المسائل الفقهية , وليست غالب طريقة الشافعي الميل إلى الاستدلال العقلي والبعد عن المستند النقلي , وكذلك هو غير منطبق على غيره من الفقهاء الذين انطلقوا من أصول أئمتهم في بناء القواعد الأصولية , كالقاضي عبدالوهاب وغيره من المالكية والسمعاني والبغدادي من الشافعية وابن حزم من الظاهرية , وأبي يعلى من الحنابلة , فضلا عما عداهم من أتباع المذاهب الأخرى .
ومما يؤكد هذا أنه حين مثّل على طريقة المتكلمين ذكر إمام الحرمين والغزالي والقاضي عبدالجبار وأبا الحسين والبصري , وهؤلاء من أئمة علم الكلام والمبرزين فيه , ولو كان يرى أن الشافعي من المتكلمين لذكره من بينهم ؛ لأنه أشهر منهم .
الأمر الخامس : أنه حين مثّل لطريقة المتكلمين ذكر إمام الحرمين والغزالي , وقال هما من الأشعرية , وذكر القاضي عبدالجبار وأبا الحسين البصري وقال هما من المعتزلة , فلو كان يقصد إلى التفريق بين المتكلمين والحنفية , لقال وهم من غير الحنفية , وهذا يدل على أن المتكلمين عنده ليسوا هم كل من عدا الحنفية كما نُسب إليه , وأن المعتبر عنده في مدرسة المتكلمين هو الاشتغال بعلم الكلام واعتماده في بناء القواعد الأصولية .
الأمر السادس : مما يدل على أنه لا يقصد بالمتكلمين كل من عدا الحنفية أنه جعل أبا الحسين البصري من المتكلمين , وهو من أتباع مذهب أبي حنفية كما ذكر بعض المؤرخين([8]), ولو كان يقصد بالمتكلمين كل من عدا الحنفية لما ذكر أبا الحسين في طائفة المتكلمين .
فهذه الأمور تؤكد خطأ ما نُسب إلى ابن خلدون من أنه يخص الحنفية باسم الفقهاء , ويقابل بينهم وبين سائر المذاهب الأخرى ويخصهم باسم المتكلمين .
وفي ختام البحث لا بد من التنبيه على أن ابن خلدون في رصده لتطوراته علم أصول الفقه وفرزه لمدارسه وقع في عدة أخطاء :
ومنها : أنه أغفل ذكر مؤلفات لا تقل أهمية وخطورة عما ذكره من كتب المتكلمين , كمؤلفات الباقلاني , فإن كتابه " التقريب والإرشاد" يعد من أهم مؤلفات أصول الفقه , ومن عمدها الكبار , التي عول الناس عليها كثيرا .
ومنها: أنه ذكر أن المعتمد لأبي الحسين شرح للعهد للقاضي عبدالجبار , وهو ليس كذلك , فإن المعتمد كتاب مستقل ألفه أبو الحسين البصري بعد شرحه لكتاب شيخه .
========================
([1]) انظر : الفكر الأصولي , عبدالوهاب أبو سليمان (445) , وعلم أصول الفقه عبود العبود(31) , ومدرسة المتكلمين , مسعود فلوس (89) , وأصول الفقه , أبو زهرة (18) , وأصول الفقه , وهبة الزحيلي (55) .
([2]) انظر : مدرسة المتكلمين , مسعود فلوس (108) .
([3]) مقدمة ابن خلدون (455) .
([4]) التقريب والإرشاد , الباقلاني (1/ 368)
([5]) المرجع السابق (3/66) .
([6]) انظر أقوال من نص على تقسيم مدارس أصول الفقه بالاعتبار السابق : قواطع الأدلة , السمعاني (1/6 ,7) , والعدة , أبو يعلى (374 , 385 , 405 , 786 , 789) , وإحكام الأحكام , الآمدي (3/153) و(2/92) , والتقرير والتحبير , ابن أمير الحاج (3/409) , ومجموع الفتاوى , ابن تيمية (29/281) .
([7]) مقدمة ابن خلدون (458) .
([8]) انظر : الجواهر المضيئة , القرشي (3/261) .