أنواع الاختلاف في التفسير
(نماذج ـ وأسباب).
قال ابن تيمية في كتاب ألفه في هذا البنوع : يجب أن يعلم أن النبي صلي الله عليه وسلم بين لأصحابه معاني القرآن ، كما بين لهم ألفاظه ، فقوله تعالي : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) [ النحل : 44 ] ، يتناول هذا وهذا ، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلي الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل
قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا ، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة
وقال أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا ، رواه أحمد في مسنده
وأقام ابن عمر على حفظ البقرة ثمان سنين ، أخرجه في الموطأ ، وذلك أن الله قال : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) [ ص 29 ] ، وقال : ( أفلا يتدبرون القرآن ) [ النساء 82 ] ، وتدبر الكلام بدون فيهم معانيه لا يمكن
وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحونه ، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم ، وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم ! ولهذا كان النزاع بين الصحابة في تفسير القرآن قليل جدا ، وهو وإن كان بين التابعين أكثر منه بين الصحابة ؛ فهو قليل بالنسبة إلى ما بعدهم
ومن التابعين من تلقي جميع التفسير عن الصحابة ، وربما تكلموا في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال والخلاف بين السلف في التفسير قليل (6) ، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ؛ وذلك صنفان ،
أحدهما : أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه ، تدل على معنى في المسمي غير المعنى الآخر ، مع اتحاد المسمي ، كتفسيرهم " الصراط المستقيم" بعض بالقرآن ، أى اتباعه وبعض بالإسلام ، فالقولان متفقان ، لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ؛ ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر ،
وكذلك قول من قال : هو السنة والجماعة ، وقول من قال : هو طريق العبودية ، وقول من قال : هو طاعة الله ورسوله ، وأمثال ذلك ؛ فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة ، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها
الثاني : أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع ، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه ؛ مثاله ما نقل في قوله تعالي : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا ) [ فاطر : 32 ] ، الآية ، فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات ، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات ، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات ؛ فالمقتصدون أصحاب اليمين ؛ والسابقون السابقون أولئك المقربون
ثم إن كلا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات ، كقول القائل : السابق الذي يصلي أول الوقت ، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه ، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار أو يقول : السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة ، والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة فقط ، والظالم مانع الزكاة
قال : وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير ؛ تارة لتنوع الأسماء والصفات ، وتارة لذكر بعض أنواع المسمي ، هو الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف
ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا لأمرين ؛ إما لكونه مشتركا في اللغة ، كلفظ " قسورة" الذي يراد به الرامي ، ويراد به الأسد ، ولفظ " عسعس" الذي يراد به إقبال الليل وإدباره ؛ وإما لكونه متواطئا في الأصل ؛ لكن المراد به أحد النوعين أو أحد الشخصين ، كالضمائر في قوله : ( ثم دنا فتدلي ) [ النجم : 8 ] الآية ، وكلفظ الفجر والشفع والوتر وليال عشر ، وأشباه ذلك ، فمثل هذا قد يجوز أن يراد كل المعاني التي قالها السلف ، وقد لا يجوز ذلك
فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين ، فأريد بها هذا تارة ، وهذا تارة ، وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه ، وإما لكون اللفظ متواطئا ، فيكون عاما إذا لم يكن لمحصصه موجب؛ فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني
ومن الأقوال الموجودة عنهم ، ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة ، كما إذا فسر بعضهم " تبسل " بـ " تحبس " ، وبعضهم بـ " ترتهن " ؛ لأن كلا منهما قريب من الآخر
ثم قال : فصل : والاختلاف في التفسير على نوعين : منه ما مستنده النقل فقط ، ومنه ما يعلم بغير ذلك ، والمنقول إما عن المعصوم أو غيره ، ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره ، ومنه ما لا يمكن ذلك ؛ وهذا القسم الذي لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه عامته مما لا فائدة فيه ، ولا حاجة بنا إلى معرفته ؛ وذلك كاختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف واسمه ، وفي البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة ، وفي قدر سفينة نوح وخشبها ، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ، ونحو ذلك ؛ فهذه الأمور طريق العلم بها النقل ؛ فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلي الله عليه وسلم قبل ، ومالا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب وقف عن تصديقه وتكذيبه ، لقوله صلي الله عليه وسلم : " إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ، ولا تكذبوهم"
وكذا ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب ، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض ، وما نقل في ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا ، فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين ؛ لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلي الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوي ؛ ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين
ومع جزم الصحابي بما يقوله ، كيف يقال : إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم ! وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه ؛ فهذا موجود كثيرا ولله الحمد ؛ وإن قال الإمام أحمد : " ثلاثة ليس لها أصل : التفسير والملاحم والمغازي" وذلك لأن الغالب عليها المراسيل
وأما ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل ؛ فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثنا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان ، فإن التفاسير التي يذكر فيها كلام هؤلاء صرفا لا يكاد يوجد فيها شئ من هاتين الجهتين ؛ مثل تفسير عبد الرازق والفريابي ، ووكيع وعبد وإسحاق وأمثالهم ؛ أحدهما قوم اعتقدوا معاني ، ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها والثاني قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب ، من غير نظر إلى التكلم بالقرآن والمنزل عله والمخاطب به ؛ فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان ، والآخرون راعوا مجرد اللفظ ، وما يجوز أن يزيد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم وسياق الكلام ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة ، كما يغلط في ذلك الذين قبلهم ، كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون في صحة المعنى الذي فسروا به القرآن، كما يغلط في ذلك الآخرون ؛ وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ، ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق والأولون صنفان : تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به ، وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ، ولم يرد به ، وفي كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا ، فيكون خطرهم في الدليل والمدلول ، وقد يكون حقا ؛ فيكون خطرهم في الدليل لا في المدلول ؛ فالذين أخطئوا فيهما مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذاهب باطلة ، وعمدلوا إلى القرآن فتأولوه على رأيهم ، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين ؛ لا في رأيهم ولا في تفسيرهم ؛ وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم ، مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم والجبائي وعبد الجبار والرماني والزمخشري وأمثالهم
ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة ، يدس البدع في كلامه ، وأكثر الناس لا يعلمون كصاحب الكشاف ونحوه ؛ حتى إنه يروج على خلق كثير من أهل السنة كثير من تفاسيرهم الباطلة وتفسير ابن عطية وأمثاله أتبع للسنة ، وأسلم من البدعة ، ولو ذكر كلام السلف المأثور عنهم على وجهه لكان أحسن ، فإنه كثيرا ما ينقل من تفسير ابن جرير الطبري ؛ وهو من أجل التفاسير وأعظمها قدرا ، ثم إنه يدع ما ينقله عن السلف، ويذكر ما يزعم أنه قول المحققين ، وإنما يعني بهم طائفة من أهل الكلام الذين قرروا أصولهم بطرق من جنس ما قررت به المعتزلة أصولهم ، وإن كانوا أقرب إلى السنة من المعتزلة ؛ لكن ينبغي أن يعطي كل ذ حق حقه ، فإن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في الآية تفسير ، وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه : وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين ، صار مشاركا للمعتزلة وغيرهم من أهل البدع في مثل هذا وفي الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك ، بل مبتدعا ، لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه ، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله وأما الذين أخطئوا في الدليل لا المدلول فمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء ، يفسرون القرآن بمعان صحيحة في نفسها ، لكن القرآن لا يدل عليها ؛ مثل كثير مما ذكره السلمي في الحقائق؛ فإن كان فيما ذكروه معان باطلة دخل في القسم الأول انتهي كلام ابن تيمية ملخصا ، وهو نفيس جدا