قال الله جل جلاله: ﴿والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون* والأرض فرشناها فنعم الماهدون* ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون﴾ [الذاريات:47 ـ49]
تعد هذه الآيات الكريمة من الآيات الدالة على قدرة الله تعالى، ووحدانيته، ومن أشدها تحذيراً من عقابه وعذابه وقد سبقتها آيات، تحدثت عن أخبار الأمم الطاغية المكذبة بالبعث، وهلاكها، فجاءت هذه الآيات عقبها، لتؤكد قدرة الله تعالى على الخلق، والإعادة، وأنه واحد، لا شريك له، يستحق العبادة، والتوحيد ولهذا صدر الأمر منه تعالى لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بعبادته سبحانه وحده، وتوحيده؛ وإلا، فمصيرهم كمصير من سبقهم من الأمم وذلك قوله تعالى عقب الآيات السابقة: ﴿ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين* ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إني لكم منه نذير مبين﴾ [ الذاريات: 50-51].
وأول ما يلفت النظر في هذه الآيات، ويدعو إلى التفكر والتدبر مجيئها على هذا الترتيب البديع: بناء السماء بقوة، والتوسُّع المستمر في بنائها أولاً. ثم فرش الأرض، وتمهيدها لساكنيها ثانيًا ثم خلق زوجين من كل شيء ثالثًا.
والسر في ذلك ـ والله تعالى أعلم ـ هو أنه لما كان الغرض الإخبار عن قدرة الله تعالى،ووحدانيته، وإقامة الدليل على ذلك، قدم سبحانه ما هو أقوى في الخلق. وما كان أقوى في الخلق، كان أقوى في الدلالة، وأظهر في الإفادة ومعلوم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، ثم خلق بعدهما جميع المخلوقات، وما خُلِق ابتداءً، كان خلقُه أشدَّ، وإن كان الكل عند الله تعالى في الخلق سواء. وإلى ذلك أشار جل جلاله بقوله: ﴿ أنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها* والأرض بعد ذلك دحاها ﴾ [ النازعات: 28-30 ] ـ ﴿ فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب﴾ [ الصافات:11 ].
ويشير قوله تعالى: ﴿والسماء بنيناها بأيد﴾ إلى أن السماء بنيت بإحكام، على شكل قبة مبنية على الأرض، وأن بناءها باق إلى يوم القيامة، لم يعدم منه جزء، خلافًا للأرض؛ لأنها في تبدُّل دائم وتغيُّر مستمر،وخلافا للمخلوقات؛ لأن مصيرها إلى الهلاك والفناء. ولهذا قال تعالى في السماء: ﴿بنيناها﴾، وقال في الأرض: ﴿فرشناها﴾، وقال في كل شيء: ﴿ خلقنا﴾.
فالخلق يبلى ويفنى، والفرش يُطوَى ويُنقل0 أما البناء فثابت باق00 وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿وبنينا فوقكم سبعًا شدادًا﴾ [النبأ: 12].
والبناء في اللغة نقيض الهدم،ومعناه: ضمُّ شيء إلى شيء آخر. ومنه قولهم: بنى فلان على أهله والأصل فيه: أن الداخل بأهله، كان يضرب عليها قبة ليلة دخوله بها. ومن هنا قيل لكل داخل بأهله بان. والعامة تقول: بنى الرجل بأهله، والصواب هو الأول. ولهذا شبِّهت السماء بالقبة، فيكيفية بنائها.
وفي تقديم كل من ( السماء، والأرض، وكل شيء ) على فعله دليل آخر على أن الخالق جل جلاله واحدٌ أحد، لا شريك له في خلقه، لأن تقديم المفعول يفيد معنى الحصر، فإن تأخر عن الفعل، احتمل الكلام أن يكون الفاعل واحدا، أو أكثر، أو أن يكون غير المتكلم.
أما تأخير المفعول، في نحو قوله تعالى: ﴿وهو الذي خلقالسماوات والأرض بالحق﴾[الأنعام: 73 ] فإن الكفار كانوا، لا يشكون لحظة في أن الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض. وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله﴾ [ لقمان:25].
ثم إن قوله تعالى: ﴿والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون﴾ يشير بوضوح وجلاء إلى أن الله تعالى بنى هذا الكون، وأحكم بناءه بقوة، وأن هذا البناء المحكم، لم يتوقف عند هذا الحد، وإنما هو في توسُّع دائم، وامتداد إلى ما شاء الله تعالى وقدر دلَّ على ذلك التعبيربالجملة الإسمية، المؤكدة بـ( إن ) و( اللام )، وهي قوله تعالى: ﴿ وإنا لموسعون﴾.
ثم في اطلاق الخبر ( موسعون ) دون تقييده بالإضافة، دلالة أخرى على ما أراد الله تعالى أن يخبر عنه، وأكده العلم الحديث. فقد ثبت للعلماء منذ الثلث الأول للقرن العشرين أن هذا الجزء المرئي من الكون متسع اتساعا، لا يدركه عقل، وأنه في اتساع دائم إلى اليوم، بمعنى أن المجرات فيه تتباعد عن مجرتنا، وعن بعضها البعض بسرعات هائلة، تقدر ببلايين السنين الضوئية وهذه الحقيقة المكتشفة، تشكل إعجازًا علميا رائعاً من إعجاز القرآن!
وفي قوله تعالى: ﴿ والأرض فرشناها فنعم الماهدون ﴾إعجاز آخر من إعجاز القرآن؛ حيث كان الظاهر أن يقال: فنعم الفارشون، بدلاً من: فنعم الماهدون. ولكن هذا لا يؤدي المعنى المراد؛ لأن الأرض خلقت، لتكون موضع سكن،واستقرار. ولا يمكن أن تكون كذلك إلا إذا مُهِدَت بعد فرشها. فاختار سبحانه وتعالى للمعنى الأول لفظ الفرش، لما فيه من دلالة على الراحة والاستقرار، واختار للمعنى الثاني لفظ التمهيد، لما فيه من دلالة على البسط والإصلاح.
وكون الأرض مفروشة، وممهدة لا ينافي كونها كروية، بل ينسجم معه تمام الانسجام، لأن الكرة إذا عظمت جدًا، كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه. وفرش الأرض يعني: تذليلها بعد أن كانت ناتئة صلبة، وكما تذلل الأنعام، أي: تفرش؛ ليُركَب عليها؛ كذلك تفرش الأرض؛ ليستقر عليها وأما التمهيد فهو تهيئة الشيء، وتسويته، وإصلاحه ؛ لينتفع به، وكذلك الأرض. وأما قوله تعالى: ﴿ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون﴾ فيشير إلى أن الله تعالى خلق زوجين من كل شيء، مما نعلم، ومما لا نعلم، وجاء العلم الحديث، ليكتشف تباعًا ظاهرة الزوجية، في هذا الكون الفسيح، وتمكن العلماء أخيراً من رؤية هذه الظاهرة، في الحيوان المنوي للذكر فـتأمل أسرار الله المعجزةفي مخلوقاته، وفي كلامه، وسبح بحمده بكرة وعشيًّا