وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين
يقول تعالى: [ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلانُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ]
وفي قوله تعالى: { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } فوائد عظيمة، منها:
·قيمة "الحق" وحتمية وجوده ، فمصلحة أهل الباطل أن يُجزأ الحق أو تُميع حقيقته أو يتم التمويه عليه فيقولوا: لعل عندك بعض الحق وعندنا بعضه، أو لا يمكن الجزم بالحق المطلق لأن كل طرف يدعيه، وهذا التشكيك في "وجود الحق" انتصار كبير لأهل الباطل، ولقد قال تعالى: [وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا]، فالتأكيد على حتمية "وجود الحق" إفشال لمسالك الظن والريب. ·التأكيد على معنى "المفاصلة" إذ لا يصح التقاء بين الإسلام والكفر فإما هدى وإما ضلال،. يقول القرطبي ـ رحمه الله ـ : " هذا من باب اللف والنشر، أي: واحد من الفريقين مبطل، والآخر محق، لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد، فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله؛ ولهذا قال: { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } .قال قتادة: قد قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين: والله ما نحن وإياكم على أمر واحد، إن أحد الفريقين لمهتد". ولكن هذه المفاصلة مذكورة في جو من الملاطفة والإقناع دون غلظة أو تعدي .·التأكيد على أن "الاهتداء إلى الحق" هو الغاية والمقصد عند أهل الحق. وهو ما يحرص أهل الباطل على التشكيك فيه لاظهار أهل الحق أنهم مريدي سلطة أو باحثين عن مطمع من مطامع الدنيا، وهو ما يتناسب مع أهوائهم التي تعودوا عليها، ووضوح هذه الغايةمن أعظم وسائل الدلالة على الحق والدعوة إليه.·من مقاصد المناظرة الأساسية هداية الطرف المقابل وليس مجرد الغلبة أو العلو عليه ، وهذه علة الملاطفة للبعد عما يسبب الغضب والشخصنة وإغلاق منافذ التقبل، يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ : " وهذه غاية النصفة والاعتدال والأدب في الجدال . أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين:إن أحدنا لا بد أن يكون على هدى، والآخر لا بد أن يكون على ضلال. ثم يدع تحديد المهتدي منهما والضال. ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم،والرغبة في الجدال والمحال! فإنما هو هاد ومعلم ، يبتغي هداهم وإرشادهم لا إذلالهم وإفحامهم ، لمجرد الإذلال والإفحام".، يقول ابن عاشور: " وهذا اللون من الكلام يسمى الكلام المنصف وهو أن لا يترك المجادل لخصمه موجب تغيظ واحتداد في الجدال ، ويسمى في علم المناظرة إرخاء العنان للمناظر ، ومع ذلك فقرينة إلزامهم الحجة قرينة واضحة"·أن الالتزام بالمباديء والأخلاق لا يتجزأ ، فلا يصح أن نصل إلى الحق بأسلوب من أساليب الباطل وإن ظننا أنه أسهل ، ومن ذلك العدل والانصاف من النفس والاستدلال على الحق ورد الأمر كله إلى الله والتأدب معه سبحانه، ونسبة الجرم ـ إن حدث ـ إلى أنفسنا صيانةً للمنهج.·استعلاء الحق وركسة الباطل . يقول السعدي ـ رحمه الله ـ : "وأتى بـ [على]في هذا الموضع، الدالة على الاستعلاء، وفي الضلالة يأتي بـ [في] كما في قوله: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} لأن صاحب الهدى مستعل بالهدى، مرتفع به، وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر". وهذا يرسخ اليقين في الحق الذي نحمله وإن كذب به المخالف فقال تعالى [قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ] رغم تكذيبهم به ، وقليل من ينتبه لذلك وقت المناظرة.
·الإيماء والتعريض حين يكون أبلغ من التصريح. وهو هنا مثل قول الرازي ـ رحمه الله ـ : "قدم الهدى على الضلال لأنه كان وصف المؤمنين المذكورين بقوله: {إِنَّآ} وهو مقدم في الذكر"، يقول الألوسي ـ رحمه الله ـ : "التعريض أبلغ من التصريح وأوصل بالمجادل إلى الغرض وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم وفل شوكته بالهوينا"·قيمة "الاستدلال" ، ولقد استدل سبحانه وتعالى بربوبيته على ألوهيته، وامتلأت آيات كتاب الله بالأدلة والمناقشات على التوحيد والرسالة وإبطال الشرك والعقائد الفاسدة، وفي ذلك درس لأهل الحق على "قيمة الدليل" في المنهج ، ومما يوضح ذلك التذكير بأن بداية كل بدعة كان تقديس الأتباع للمتبوع والغلو فيه ، فالاستدلال على الحق معلم من معالم المنهج الحق، وهو من مخاطبة العقلاء والأسوياء وهي مضطردة في الخطاب القرآني إذ المقصود مخاطبة العقل السليم والنفس السوية، بخلاف أساليب جذب الغوغاء والتأثير عليهم التي تعتمد على تغييب العقل والهيمنة على الشعور وهي أساليب لا يستخدمها الحق أبداً إذ هي ضد مقاصده وأصوله ومساربه في التأثير فى النفوس والعقول ، يقول السعدي ـ رحمه الله ـ : "أي: قد شرحنا من الأدلة الواضحة عندنا وعندكم، ما به يعلم علما يقينا لا شك فيه، من المحق منا، ومن المبطل، ومن المهتدي ومن الضال؟ حتى إنه يصير التعيين بعد ذلك، لا فائدة فيه، فإنك إذا وازنت بين من يدعو إلى عبادة الخالق، لسائر المخلوقات المتصرف فيها، بجميع أنواع التصرفات، المسدي جميع النعم، الذي رزقهم وأوصل إليهم كل نعمة، ودفع عنهم كل نقمة، الذي له الحمد كله، والملك كله، وكل أحد من الملائكة فما دونهم، خاضعون لهيبته، متذللون لعظمته، وكل الشفعاء تخافه، لا يشفع أحد منهم عنده إلا بإذنه العلي الكبير، في ذاته، وأوصافه، وأفعاله، الذي له كل كمال، وكل جلال، وكل جمال، وكل حمد وثناء ومجد، يدعو إلى التقرب لمن هذا شأنه، وإخلاص العمل له، وينهى عن عبادة من سواه، وبين من يتقرب إلى أوثان، وأصنام، وقبور، لا تخلق، ولا ترزق، ولا تملك لأنفسها، ولا لمن عبدها، نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة، ولا نشورا، بل هي جمادات، لا تعقل، ولا تسمع دعاء عابديها، ولو سمعته ما استجابت لهم، ويوم القيامة يكفرون بشركهم، ويتبرأون منهم، ويتلاعنون بينهم، ليس لهم قسط من الملك، ولا شركة فيه، ولا إعانة فيه، ولا لهم شفاعة يستقلون بها دون الله، فهو يدعو من هذا وصفه، ويتقرب إليه مهما أمكنه، ويعادي من أخلص الدين لله، ويحاربه، ويكذب رسل الله، الذين جاءوا بالإخلاص لله وحده، تبين لك أي الفريقين، المهتدي من الضال، والشقي من السعيد؟ ولم يحتج إلى أن يعين لك ذلك، لأن وصف الحال، أوضح من لسان المقال"
·ومن الفوائد ما ذكره الرازي ـ رحمه الله ـ بقوله: " وصف الضلال بالمبين ولم يصف الهدى لأن الهدى هو الصراط المستقيم الموصل إلى الحق والضلال خلافه لكن المستقيم واحد وما هو غيره كله ضلال وبعضه بين من بعض ، فميز البعض عن البعض بالوصف "