من حقي أن أعيش في بيئة خالية من التدخين
زاوية مختلفة تلك التي اختارتها وزارة الصحة الفلسطينية ومنظمة الصحة العالمية هذا المرة لتناول آفة التدخين في اليوم العالمي للإمتناع عن التدخين الذي يصادف 31 من شهر أيار من كل عام. فقد اعتدنا على تناول الموضوع من زاوية المدخن والآثار السلبية التي تعود عليه جراء تدخينه لأيٍّ من أنواع التبغ المعروفة. لكن في هذا العام كانت الرؤية مختلفة, حيث تم الإتفاق على تناول الموضوع من زاوية غير المدخنين والتركيز على حقهم في العيش في بيئة خالية من التدخين, فكان هذا هو شعار الحملة لهذا العام. فهل يعتبر التدخين حرية شخصية للمدخن لا ينبغي المساس بها؟ وهل يحق لغير المدخن الإعتراض على تلويث بيئته من قبل المدخنين؟ ما هو معنى التدخين السلبي؟ وما هي مضاره؟ هذه الأسئلة, بالإضافة إلى تساؤلات أخرى سأحاول الإجابة عليها في هذا المقال.
هل يعتبر التدخين حرية شخصية للمدخن؟
بالنظر إلى الأسباب التي تكمن وراء بدئ الأشخاص بالتدخين , نجد أن الشعور بالإستقلالية ومحاولة إثبات الذات وإظهار النضوج هي من أهم الأسباب الدافعة للتدخين, خاصة في مرحلة المراهقة, حيث يلجأ البعض في هذه الفئة العمرية إلى التدخين كوسيلة لإظهار نضوجهم واستقلاليتهم وللتهرب من قيود العائلة والمجتمع ويعتبرونه حرية شخصية لا يجب المساس بها. بالتأكيد هذا مفهوم خاطئ للحرية, فحرية الإنسان تنتهي عند حدود حرية الآخرين, فكما أننا لا نستطيع أن نؤذي جيراننا بقمامتنا, وكما أنه ليس من حقنا أن نزعج من حولنا بضوضائنا وكما أن دس السم في طعام أحدهم يعتبر جريمة, كذلك فإن التدخين في محيط غير المدخن يعتبر تعديا على بيئته وتلويثا لها, وتسميما لهوائه, وتعديا على حقه في العيش في بيئة صحية.
هل يحق لغير المدخن الإعتراض على تدخين أحدهم في محيطه؟
لقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الثالثة على أن "لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه", كما أنه نص أيضا في مادته التاسة والعشرين على أمرين, أولهما: أن " على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نمواً حراُ كاملاً", وثانيهما: أن " الفرد يخضع في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي". ونرى من هذه النصوص أن للإنسان الحق في الإعتراض على أي مؤثر يؤثر على سلامة شخصه, كما على كل فرد في المجتمع واجبات تجاه مجتمعه وهو يخضع في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي تضمن عدم المساس بحرية الآخرين. وقد تم تأكيد هذا المعنى من قبل رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم حين قال في الحديث الشريف " لا ضرر ولا ضرار".
ما هو مفهوم التدخين السلبي؟
مصطلح التدخين السلبي يعني ببساطة تواجد غير المدخن في حيز مغلق مع من يدخن أي نوع من أنواع التبغ, سواء السجائر أو "الأرجيلة" أو "الغليون" أو غيرها من أنواع التبغ المعروفة. وقد أثبتت الدراسات العلمية أن الدخان المنبعث من الطرف المشتعل للسيجارة أو من رأس ألأرجيلة هو أشد خطورة من الدخان المنبعث من فم المدخن. وقد ثبت بوجه لا يقبل الشك أن للتدخين السلبي أضرارا صحية لا تقل أهمية أو خطورة عن ما يسببه التدخين المباشر. فكما أن التدخين يعتبر سببا أساسيا لأمراض القلب والشرايين وأمراض الجهاز التنفسي كالربو ومرض الرئة الإنسدادي المزمن والعديد من أنواع السرطان, كسرطان الرئة والمثانة والبروستات وغيرها, فإن للتدخين السلبي نفس الأضرار ويتسبب في نفس الأمراض.
ما هي المنطلقات التي يعتبر التدخين من خلالها تعديا على حقوق الآخرين؟
أولا: المنطلق الصحي
لقد بينت سابقا, أن للتدخين السلبي أضرارا صحية خطيرة على صحة من يتعرض له, وخاصة من يتعرضون إليه باستمرار كعائلة المدخن, زوجته وأطفاله, وكذلك زملائه في العمل. وعلى من يركبون المواصلات العامة مع المدخنين. لذلك فإن التدخين بالقرب من شخص غير مدخن يعتبر تعديا سافرا على حق ذلك الشخص بالتمتع بالصحة وتجنب أي أمر قد يضر بها.
ثانيا: المنطلق الإجتماعي والحقوقي
إن على كل فرد في أي مجتمع مسؤلية تجاه مجتمعه, ومن أهم بنود هذه المسؤلية, إلتزام الفرد بعدم تلويث بيئة مجتمعه وعدم الإضرار به بأي شكل من الأشكال. كذلك عليه إحترام حرية الآخرين وحقوقهم وعدم التعرض لهذه الحقوق بالمس من قريب أو بعيد. وفي هذا السياق فقد صدر القانون الخاص بمنع التدخين في الأماكن العامة المغلقة وصادق عليه سيادة الرئيس محمود عباس, وتم نشره في الجريدة الرسمية عام 2005, وهو بانتظار إصدار اللوائح التنظيمية حتى يخرج إلى حيز التنفيذ.
ثالثا: منطلق المسؤلية الأخلاقية
خاصة عندما يتعلق الأمر بمن يُعتبر الفرد مسؤولا عنهم, وهنا أخص بالذكر الأطفال في المنزل, فإن تدخين الأب أو الأم في المنزل بوجود الأطفال الذين لا يملكون أن يعترضوا على ذلك ويضطرون لاستنشاق ذلك الهواء المسموم المنبعث من سيجارة والديهم, يعتبر تقصيرا من قبل الوالدين في حماية أبنائهم والحفاظ على صحتهم التي يعتبر الحفاظ عليها مسؤولية الوالدين بالدرجة الأولى. كذلك تدخين المرأه الحامل وما يسببه من ضرر لجنينها يعتبرا تقصيرا فادحا وجريمة أخلاقية بحق ذلك الجنين الذي لا حول له ولا قوة.
رابعا: المنطلق الديني
فقد أكدت جميع الديانات السماوية على حرمة إيذاء الإنسان لأخيه الإنسان. ففي الإسلام كان حديث رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار" , وفي المسيحية جاءت تعاليم السيد المسيح عليه السلام حين قال " "كما تريدون ان يفعل الناس بكم افعلوا انتم ايضا بهم هكذا.( لوقا 6: 31)" وفي اليهودية جاء في الوصايا العشرة "لا تقتل". من هنا نجد أن التشريعات السماوية كلها إتفقت على حرمة إيذاء الآخرين بقصد أو بغير قصد.
أخيرا وليس آخرا, فإن حق كل إنسان في العيش في بيئة خالية من التدخين هو حق أصيل يجب الحفاظ عليه وضمانه بكل الوسائل المتاحة, من قوانين وتشريعات وحملات توعية ونشاطات تؤكد على هذا الحق وتبرزه بشكل واضح. ويجب علينا أن نتخلص من النظرة التقليدية إلى التدخين التي تبرز تأثيره على المدخن نفسه, لننظر إلى الموضوع نظرة شمولية أوسع, تتناول التأثيرات الإجتماعية والإقتصادية والأخلاقية لهذه الآفة. ولنرفع صوتنا جميعا ونقول : "من حقنا أن نعيش في بيئة خالية من التدخين".