ذهب طالبٌ إلى دولة أجنبية لينال دكتوراه، فعليه أن يعمل، وأن يدرس، أهله فقراء، وهو يحتاج فَرَضاً إلى ألف فرنك فرنسي في الشهرِ، وجد عملاً لساعتين، فهاتان الساعتان تحققان له ألف فرنك فرنسي التي يحتاجها.
وعنده دراسة، لو نال الدكتوراه لعاد إلى بلده بأعلى المراتب، وشغَل أعلى منصب، بأكبر دخل، كل آماله معقودة على هذه الشهادة، عثر على عمل يحقق له ألفي فرنك في الشهر، ولكن عليه أن يعمل أربع ساعات، يقول: لا بأس سأشتغل وأوفِّق بين الدراسة والعمل، ثم عثر على عمل يحقق له ثلاثة آلاف خلال ست ساعات، وعرَض عليه أربعة آلاف بثماني ساعات، خمسة آلاف بتسع ساعات عمل، ثم وجد عملاً يحقق له مئة ألف فرنك، لكن لمدة أربع وعشرين ساعة، فترك الدراسة من أجله، فهل يقول لك: أنا هيَّأتُ عملاً عظيماً؟ لا، فإقامتك هنا محدودة، وبقاؤك في هذا البلد منوط بجرة قلم، فإذا عُدتَ إلى بلدك بلا شهادة كنت في خزي شديد.
اسمعوا القاعدة: العمل الذي يستغرق وقتك كله خسارة محقَّقة مهما كان الدخل كبيراً، لأنك عندئذ خرجت عن هدفك الأساسي.
أيها الأخوة الأكارم، أنا أعلم أن الحياة صعبة، والدخل محدود، والمطالب كثيرة، والوقت ضيق، وأعرف أن أخوة كثيرين مضطرون إلى العمل المستمر، ولكن أن أغض الطرف عن إنسان عمله استغرق وقته كله، ثم يقال: هو ناجح أو رابح، فلا والله، لا بد من وقت تتعرف فيه إلى الله.
مرة خطر في بالي مثلٌ، طبيب درس ثلاثين سنة، وجاء إلى بلده، وفتح عيادة وكتب: الدوام ما بين الساعة الخامسة والسابعة بعد الظهر، وبينما هو في العيادة جاءه مريض بعد الساعة الخامسة، فاستأذن، قال له: واللهِ ما عندي وقت، فلماذا أنت هنا إذاً؟ لماذا درست؟ إن لم تتفرّغ لأكبر عمل في حياتك فلأيِّ شيء تتفرَّغ؟ ادَّعى أنه لا وقت له ليتعرّف على الله عز وجل، نقول له: لكن ما الذي يشغلك؟ قال تعالى:
﴿ اًمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
[سورة النمل: 84]
ماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وخلاصة الكلام أنْ تعلم أنّه لا بد من طلب العلم، هذا شيء لا بدّ منه، لأنه لو لم تكن كذلك لظهر الانحراف والخلل في حياتك، مثلاً في الحج سمعنا باجتماع عُقِد قبل أيام أن أكثر من عشرين إلى ثلاثين حاجّاً سوريّاً لم يطوفوا طواف الإفاضة العام الماضي، وهو ركن أساسي، فلمّا قيل لهم: لماذا تصرَّفتم كذلك؟ قالوا: لا نعرف، ولم ينبِّهْنا أحَدٌ، وغادَروا مكة دون أنْ يطوفوا طواف الإفاضة، فما الذي أبطل حجهم؟ جهلُهم. أنا أقول لأيٍّ منكم: قد تكون سليمَ النية، وتأكل الربا، وأنت لا تدري، ويمكن أنْ تتجاوز الحدود لعلة الجهل فقط، والقانون لا يحمي الجاهل، كما أن الدين لا يعذر الجاهل.
أنا أتمنى من الأخوة الكرام أن يعلموا أنَّ موضوع طلبَ العلم، وحضور مجالس العلم لا يتوقّف على ما لديكم من فراغٍ، الفصل شتاء، وضاق صدرنا، تعال نحضر مجلس علم، وفي الصيف الناس سارحون في المصايف، فينسَوْن هذا المجلسَ، هذا منهاج جامعي، فيجب أن تجعل أساس الدرس وحياتك مقولبة مع الدرس، ليس الأساس حياتك والدرس حسب فراغك، بل لا بد من الحرص والمتابعة والمثابرة.