إن الحركة من الوجه الآخر للحياة، فقد أودع المولى ـ عز وجل ـ في أجرام هذا الكون صنوفًا عديدة من أنواع الحركة المتقنة التي تدل على وحدانيته، فمن هذه الحركة ما يكون في الأرجاء البعيدة من الكون التي لا يمكن رصدها إلا بأجهزة حديثة، ومنها ما يكون مجاورًا لها، والملاحظ من قبل الأشخاص العاديين الذين يراقبون السماء. وتُعَدُّ الكواكب السيارة من أهم الأجرام ذات الحركة الملموسة، وهي التي تعرف بكواكب المجموعة الشمسية، وخاصة الخمسة التي يمكن رؤيتها بالعين المجردة وهي: عطارد، والزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل.
وقد ورد وصف حركة هذه الكواكب في القرآن الكريم بقوله تعالى: (فَلآ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ) وفي تفسير هذا قال سيد قطب ـ في ظلاله: (هي الكواكب التي تخنس، أي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي، والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء. وهي تجري وتختبئ في كناسها، وترجع من ناحية أخرى. فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب، وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها، في اختفائها وفي ظهورها، في تواريها وفي سفورها، في جريها وفي عودتها، يقابله إيحاء بالجمال في شكل اللفظ وجرسه).
شكل (1): كوكب المريخ وقد ظهرت عليه ملامح السطح بعد استخدام الوسائل الحديثة والتقنية المتطورة.
وقد وصف ابن عاصم الثقفي ـ وهو أحد علماء الفلك في القرن الرابع الهجري في كتابه الأنواء والأزمنة ـ حركة الكواكب، فقال: (بينا ترى أحدها في آخر البرج، إذْ كَرَّ راجعًا نحو أوّله، لذلك سميت بالمتحيرة تشبيهًا بالحيوان الذي لا يستقيم له جهة فهو يقبل ويدبر، وليس ذلك من حيرة بها، ولكن سميت بذلك على قدر ما يظهر للأبصار من حالها)، ويقول العالم ابن الأجدابي ـ ت 950هـ: (سميت الخمسة (عطارد، الزهرة، المريخ، المشتري، زحل)، خُنّسًا لأنها تسير في الفلك من المغرب إلى المشرق، وذلك سيرها المستقيم، ثم تتقهقر راجعة في طريقها فتسير من المشرق إلى المغرب، فبينما يرى أحدها في آخر البرج، كر راجعًا نحو أوله، وكل من استمر في طريق ثم رجع فقد خنس، ولذلك سمي الشيطان ـ لعنه الله ـ خنّاسًا في سورة الناس لأنه يوسوس فإذا ذُكِر الله ـ عز وجل ـ خنس أي أدبر راجعًا، وقيل لها الكنّس لأنها تستتر بضياء الشمس كما تكنس الظباء (أي تدخل في الكنس وقت الهاجرة من شدة الحر).
حركة التقهقر والاسقامة لكوكب المريخ قبل وبعد الاستقبال
شكل(2): تغير موقع كوكب المريخ بالنسبة للخلفية النجمية خلال عدة أشهر تتضح فيها أنه كان يتحرك على خط مستقيم خلال الأشهر السابقة لأغسطس،
إذ ببدايته تظهر الحركة معاكسة أو تقهقرية لمدة شهرين، ثم تعود الحركة لتكون في الاتجاه الأول.
وبالتركيز على كوكب المريخ نجد أن ابن الأجدابي يقول عنه: (ويسمى بهرام، وهو كوكب أحمر شديد الحمرة. تقارنه الشمس من سنتين إلى سنتين ثم تفارقه. ويقيم تحت شعاعها مقدار شهرين، ثم يظهر بالغداة طالعًا من المشرق، وهو مستقيم السير. فلا يزال مستقيمًا حتى يصير بينه وبين الشمس أربعة أبراج وثلث. وذلك على مضي أحد عشر شهرًا ونصف من حين مفارقته الشمس. فإذا تباعدت الشمس عنه بهذا المقدار فهو حينئذ راجع. ويقيم في الرجوع ستة وستين يومًا. ثم يستقيم. فإذا مضى له أحد عشر شهرًا ونصف من يوم استقامته لحقته الشمس، كما يوضحه الشكل (2) للأشهر القادمة ـ بإذن الله ـ ومن الناحية التاريخية فقد قدر العالم الفلكي البتاني حجم جرم المريخ بأنه مثل جرم الأرض مرة وثلث تقريبًا، وقد قدر الفلكي الفرغاني بُعدَه عن الأرض في حالة الأوج بحوالي 8876 مرة قدر نصف قطر الأرض، وهذه التقديرات فيها بعض التقريب بحكم الوسائل المستخدمة في التوصل إليها.
كوكب الأرض ما بين الشمس والمريخ في وضع استقبال
شكل (3) نتيجة وجود مدار كوكب الأرض ضمن مدار كوكب المريخ ـ فإنه يمكن أثناء دورانهما حول الشمس أن يكونا والشمس على خط واحد
وهو وضع الاستقبال والذي سيكون ـ بمشيئة الله ـ في 27 أغسطس 2003م
وكوكب المريخ يلي الأرض في الترتيب بُعدًا عن الشمس ومتوسط بعده عن الشمس 228 مليون كيلومترًا، أي حوالي 1.52 وحدة فلكية، ويكمل دورته حول الشمس في مدة قدرها 687 يومًا. وتتراوح درجات الحرارة عليه بين 23 و101 درجة مئوية تحت الصفر. وسبب لونه الأحمر هو وجود أكسيد الحديد في تركيب سطحه. وتساوي عُشر كتلة الأرض، وقطره نصف قطر الأرض، ويساوي حوالي 6.794كم. ويحدث على المريخ ما يشبه الفصول الأربعة الأرضية، وذلك لأن وضع محور دوراته في الفضاء يشبه وضع محور دوران الأرض، مما يتسبب في ظهور قلنسوتين ناصعتي البياض على قطبيه، وذلك لتكون الجليد عليهما، كما أن مساحتهما تزداد وتنكمش مع فصول السنة. وتكون فترة كل فصل ضعف ما عليه الحال في الأرض، وذلك لأن المريخ يكمل دورته حول الشمس في مدة 1.88 سنة أرضية.
وكان هذا الكوكب مصدرًا لعدد من الأساطير والقصص الخيالية التي نسجت حوله؛ ففي بداية عصر المناظير وعند الحصول على أول تخطيط لسطحه واكتشاف علامات ممتدة ومعتمة عليه والتي فسرت بأنها قنوات تنقل المياه من الأقطاب المتجمدة إلى بقية أجزائه. وفي عام 1924م كان للمريخ وضع يجعله قريبًا نسبيٌّا مما حدا بالعالم (تود) بالتفكير في محاولة استقبال موجات لاسلكية منه، فطلب إيقاف البث في إذاعات العالم، لكن لم تنجح هذه المحاولة. ومع بداية عصر السفن والرحلات الفضائية توجه إلى المريخ عدد من المركبات منها ما دار حوله، ومنها ما هبط على سطحه لتحليل تربته وجوّه الغازي، الأمر الذي أزال كل الاحتمالات في وجود حياة أو قابلية سطح المريخ لاستضافة بني البشر للحياة عليه.
وأثناء دوران كل من المريخ والأرض في مدارين بسرعتين مختلفتين ـ فإن أوضاعهما بالنسبة للشمس تكون دائمًا متغيرة، وفي بعض الأحيان تكون الأرض بين المريخ والشمس كما يوضحه الشكل (3) وهو ما يطلق عليه (وضع استقبال)، وهو ما يحدث كل سنتين، كما اتضح من وصف ابن الأجدابي أعلاه، إذ في تلك اللحظة يكون المريخ في أقرب نقطة للأرض، ويكون مقابل الشمس، لذا فإنه يتوسط منتصف الليل، (ولو كنت من أهل المريخ ففي تلك اللحظة سترى الأرض وهي تعبر أمام قرص الشمس).
شكل (4) يحدث تكرار وضع الاستقبال لكوكب المريخ كل سنتين، ولأن مداره بيضاويٌّا فإن الاستقبال يحدث كل مرة عند بُعد مختلف مما يجعل حجم قرص الكوكب مختلف،
وفي الاستقبال الذي سيحدث هذه السنة سيكون المريخ في أقرب نقطة يقتربها من الأرض منذ قرون عديدة لذا فإن حجمه الزاوي يكون أكبر ما يمكن.
وعندما يحدث الاستقبال يكون بُعد المريخ عن الأرض نصف بُعد الأرض عن الشمس تقريبًا، لكن المسافة بينهما ليست ثابتة والسبب أن مدار المريخ حول الشمس بيضاوي، لذا فإن حجمه الظاهري سيختلف من استقبال إلى آخر، فقد كان بًعده في وضع الاستقبال سنة 2001 حوالي 67 مليون كيلو متر، بينما في سنة 2005 سيكون ـ بإذن الله ـ 69 مليون كيلومتر، أما الاستقبال الذي نحن بصده والذي سيحدث ـ إن شاء الله تعالى ـ يوم 27 أغسطس 2003م الموافق 29 جمادى الآخر، فسيكون بُعد الكوكب حوالي 54.5 مليون كيلومتر، مما يجعل لهذا التقابل تميز لأن هذه المسافة أقل ما يمكن حدوثه من عدة آلاف من السنين، ويقدر هذا التقارب بحوالي 30% من بُعد الأرض عن الشمس. لذا فإن قطر قرصه الزاوي سيصل إلى 25 ثانية قوسية، انظر الشكل (4) أي ضعف قطره في استقبال سنة 1995، وهذا الحجم المضاعف يصل إلى حوالي واحد في المائة من قطر الشمس، لذا فإن شدة احمرار ولمعان كوكب المريخ سيكون من السمات الواضحة له في السماء لمدة أسبوعين قبل وبعد 27 أغسطس، وسيتيح هذا الوضع الفرصة للراصدين مشاهدة بعض تفاصيل سطحه.
المراجع:
في ظلال القرآن: سيد قطب.
المنظومة الشمسية تراث تأسيس وحاضر مثير: عبدالأمير المرتضي المؤمن، 1997م.
الأزمنة والأنواء ومعرفة أعيان الكواكب: عبدالله بن حسين بن عاصم الثقفي (ت 403هـ)، تحقيق د. نوري حمودي القيسي، ومحمد نايف الديملي 1416هـ.
الأزمنة والأنواء: ابن الأجدابي (ت 905هـ) تحقيق د. عزة حسن 1964م.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الاحياء منهم والاموات وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين