فيالسنة الحادية عشرة للهجرة، توفي النبي صلى الله عليه وسلم ولحق بالرفيقالأعلى بعد أن حج حجة الوداع. وجاء بعده الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكرالصديق فعمر بن الخطاب فعثمان بن عفان فعلي بن أبي طالب رضي الله عنهمأجمعين . وقد جعلوا اهتمامهم نشر رسالة الإسلام على هدي الرسول صلى اللهعليه وسلم واتسعوا في فتوحات البلدان ونشر رسالة الإسلام.
وفي عام 41 هـ، انتقلت الخلافة إلى دمشق مع الخلفاء الأمويين الأربعة عشر، الذينركز معظمهم على إرساء معالم الحضارة الإسلامية. وفي عصرهم، تطور الشعربأنواعه والنثر وفنونه (خطابة، كتابة) كما ازدهرت بعض نواحي العلوم والموسيقى والغناء. ومع الأمويين، اتسعالعالم الإسلامي صوب مشارق الأرض ومغاربها، وعرف عهدهم تراثًا عربيًامزدهرًا. وقد بلغت فتوحاتهم إفريقيا الشمالية والمغرب، ثم عبروا إلىأسبانيا (الأندلس)، فأنشأوا فيها حضارة إسلامية راسخة لا تزال آثارها باقية حتى اليوم.
فيعام 132 هـ، انتقلت الخلافة من دمشق إلى بغداد مع الخلفاء العباسيينالسبعة والثلاثين الذين انقسم عصرهم إلى أربعة حقب زاخرة. ذلك أن الخلافةالإسلامية بلغت معهم أقصى مداها. ففي العصر العباسي، اتخذت الدولة شكلاًمتطورًا، وعرف المجتمع الإسلامي عصره الذهبي. وكان من أواصر هذا التقدمالحضاري قيام المجتمع الإسلامي على ثلاث وحدات: وحدة الدين، ووحدةالاقتصاد، ووحدة اللغة. وفي ذلك العصر، قامت المذاهب الفكرية التي تعالجقضايا الشريعة والعقل مستمدة مواقفها من روح القرآن الكريم. ويمكن القول إنالعصر العباسي حقق اتساعًا في النواحي الدينية والمدنية كافة.
من أبرز مآثر العصر العباسي تأسيسبيت الحكمةعلى عهدالمأمون. وقد كان تجمعًا لكبار المفكرين والمترجمين والعلماء، وفيه بدأت عملياتالترجمة من اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية. حيث تم ترجمة وتأليفالكثير من كتب الفكر والعلوم، مما أهل المسلمين لاستقبال الفكر الإنسانيفي أبلغ مصادره، وإلى جانب أنشطة الشعر والنثر، برز أدب السيرة والروايةوالتصنيف الأدبي وفقه اللغة والمعاجم والنحو والعلوم الدينية والفلسفةوالتاريخ والجغرافيا والطب والفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية والغناءوالموسيقى. ويمكن القول إن العصر العباسي رفد الحضارة الإسلامية بالعلوموشتى مجالات المعرفة. وهو ما ظهر أثره لاحقًا على الفكر العالمي والإنتاجالغربي.
أصيبالعصر العباسي بنكبة حضارية كبرى حين أقدم الفاتح المغولي هولاكو علىإحراق مكتبة بغداد، فدخلت الحضارة العربية عصرًا أطلق عليه بعض الدارسينعصر الانحطاط.
إشعاع الحضارة الإسلامية
بينالقرنين السابع والثالث عشر الميلاديين، أقام المسلمون حضارة عالميةجعلتهم في طليعة الشعوب الحضارية. وقد جمعت حضارتهم أسبانيا وإفريقياالشمالية في الغرب إلى شعوب العالم القديم من مصر إلى سوريا إلى بلاد مابين النهرين في الشرق. وكان واضحًا أن سرعة انتشار الإسلام هي التي عجلت فيربط أجزاء الخلافة الإسلامية. هكذا كان الإسلام هو المحرِّك وكانت اللغةالعربية هي الصلة.
إنجازات الحضارة العربية الإسلامية
حققتالحضارة الإسلامية العربية في فترة ازدهارها الكثير من الانجازات فيميادين المعرفة المختلفة، خصوصًا في مجالات الرياضيات والفلك والطبوالعمارة والجغرافيا والفيزياء والهندسة.
في الرياضيات: اخترعالخوارزمي،أحد منجمي المأمون، علم الجبر وانتشر العلم بفضله في العالم. وأخذت أوروبافي الرياضيات عن العرب مفهوم الصفر ونظام التقويم والنظام العشري (الذي دفع بعلم الرياضيات خطوات إلى الأمام) والأرقام العربية التي هي اليوم أوسع الأرقام انتشارًا في العالم.
في علم الفلك: شهد علم الفلك ظهور الأسطرلاب العربي الذي أوجده العلماء المسلمون لتحديدأوقات الفجر والمغرب والصوم، ثم طوّروه فاكتشفوا خطوط الطول والعرض وسرعةالصوت والضوء، حتى أصبح ذلك مرجعًا لعلماء الغرب. وتمكنالبيرونيمن اكتشاف دوران الأرض حول الشمس، وهو ما أثبتهجاليليوبعد ستة قرون. وترجم الفلكيون العربالزرقالي والفرغاني والفزاريمؤلفاتبطليموسفي الفلك وأضافوا إليها ما بات مرجعًا بعدهم للفلكيين الغربيين.
في الطب: تفوق العرب في فنون الشفاء التي كانت معروفة في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين. وكانت مؤلفاتالرازيالمتقدمة في الطب مرجعًا للأوربيين حتى وقت متأخر من القرن السادس عشرالميلادي، كما ظل الأوروبيون حتى القرن السابع عشر يتعلمون من نظرياتابن سيناالطبية. وكان ابن سينا أول من أشار إلى الطب العقلي، وهو ما أصبح فيما بعد أساسًالعلم النفس. واشتهر عند العرب أيضًا أمر التداوي بالأعشاب والمواد الطبيعية (من ثوم ومُر وعصير جلاب وماء الزهر، إلخ) فكانت تزخر بها صيدلياتهم ومنها انتشرت إلى الشرق الأوسط فأوروبا.
في العمارة: عرف المسلمون طرازًا معماريًا تجسد في بناء المساجد، مما عده الغربيون نماذج هندسية في فن البناء. ويعترف علماء الغرب أنالجامع الأمويفي دمشق وجامعابن طولونفيالقاهرة كانا أساسًا لبناء عدة كاتدرائيات ضخمة في أوروبا. وقد تأثر فنالبناء الغربي كثيرًا ببناء المآذن والأقواس والقناطر والأهِلة والأطرافوالمثلثات والمنحنيات المعكوسة وهندسة القباب والمكعبات، مما أخذهالأوروبيون عن مساجد مكة والقدس والقاهرة ودمشق. وكان لفن الزخرفة والخطوالنقوش تأثير كبير على الأوروبيين، خاصة ما تركه العرب في الأندلس (كقصر الحمراء والجامع الكبير في قرطبة).
في الملاحة والجغرافيا: كان للعرب تأثير كبير على الغرب. وقد أخذ العرب من الكنعانيين، أسيادالبحر، ومن قدامى المصريين، ما أعانهم على تطوير البوصلة. وبرعالإدريسيفي القرن الثاني عشر الميلادي بابتكاراته ومكتشفاته، حيث وضع أول أطلس فيالعالم، حاويًا سبعين خريطة، بعضها لمناطق لم تكن معروفة من قبل. وكانترحلاتابن بطوطةوتدويناته خير معين للأوروبيين على معرفة مناطق جغرافية لم يكونوا يعرفونها. وفي القرن السادس عشر تمكنحسن الوزانمن كشف مجاهل إفريقيا ويدين له الغرب بذلك، ويُعْرَف عندهم باسم ¸ليون الإفريقي. وفي رحلاتفاسكو دي جاماالشهيرة كان الملاح العربيأحمد بن ماجدهو البحار الرئيسي في القيادة. ويقال إنكريستوفر كولمبوسكان يتكل على بحار عربي في توجيه حملته البحرية التي أدت إلى اكتشاف أمريكا.
في فن الجنائن والحدائق: واشتهر العرب كذلك بفن الجنائن والحدائق. وقد بات كتاب الفلاحة الأندلسيةلابن العواممرجعًاأوروبيًا في علم النبات لأنه وصف فيه نحو خمسمائة نبتة وبيَّن طريقةزراعتها والاعتناء بها وبالأرض والتربة. وكذلك ظل الأوروبيون لوقت طويليستفيدون من العرب خاصة الأندلسيين في فنون حفظ الخضراوات والفواكهوالأزهار ومواد التجميل ومساحيق الوجه والعطور والتطيب والجواهر والحُلي.
في علوم الفيزياء: أفاد الأوروبيون، من ناحية أخرى، في علوم الفيزياء ـ وتحديدًا حقل البصر والبصريات ـ من مؤلفاتالكندي وابن الهيثم.
في الحرفيات الدقيقة والمنمنمات: برع العرب في الحرفيات الدقيقة والمنمنمات، وفي الزجاجيات والخزف والحفروالبلَّور ومزج الألوان وصباغة الحرير والأقمشة والجلود والدباغة وصقلالحديد. ومازالت بعض هذه الخامات والحرف تحمل في الغرب اسمها الأصلي (دمقس،حرير دمشقي، دباغة مغربية، أزرق محمدي). ويردها بعض الغربيين صراحة لأصلهاالعربي.
في الموسيقى وآلاتها: طور العرب في الموسيقى وآلاتها، فعرف الغرب الكثير منها. وما زالت حتى اليوم آلات عديدة (القيثارة، الطبلة، الزار، الناي، المزمار، مزمار القربة إلخ...) معروفة على أنها تطوير غربي للآلات الموسيقية العربية. كما أخذ الأوروبيونالكثير من الألحان العربية التي كانت شائعة في غناء القصائد العربية فيقصور الملوك.
في الفلسفة: نقل المفكرون العرب أهم مصادر الفلسفة المشرقية واليونانية القديمة ترجمة وتطويرًا، فاشتهرالكنديبتطوير فلسفةأفلاطون وأرسطو، والفارابيبفكرة المدينة الفاضلة،وابن سينابفلسفته العقلية، وابن خلدونبنظرياته الاجتماعية التي لاتزال حتى اليوم في أصل مؤلفات الكثيرين من الفلاسفة الاجتماعيين الغربيين. وبرزابن رشدبفلسفته التي ارتكز عليها بعده فلاسفة غربيون كبار.
وقدأخذ الغربيون كذلك جمالية الخط العربي متأثرين باللغة العربية نفسها، لذلكدخلت كلمات وعبارات عربية كثيرة إلى عدة لغات أوروبية، ولا تزال حتى اليومفي نسيج هذه اللغات (الإنجليزية، الفرنسية، الأسبانية، الإيطالية،الألمانية). وقد أثرت مؤلفات عربية مثلحي بن يقظان لابن طفيل، وألف ليلة وليلة، ومقدمة ابن خلدون، إلخ... في الفكر الغربي. .
هكذانجد أن المسلمين ساهموا في إعلاء الحضارة العالمية وتقدمها وتطورها، بفضلأعلامهم في العلوم والفنون والتربية والفلسفة والشعر والموسيقى. وفي مكتباتالعالم اليوم آلاف الوثائق التي تشهد بالفضل للمنجزات الحضارية الإسلاميةفي حقول الفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب والصيدلة والجغرافياوالعمارة والموسيقى، وما كان لهم من تأثير في تصنيع النسيج والورق والدهانوالصابون والحبر والشمع والسكر والنشاء والزيوت النباتية والعطور والبارود،وكذلك في اكتشاف أو تطوير الميزان ورقاص الساعة والساعة المائية والطاحونةالمائية والهوائية والآلات الفلكية وأجهزة سكب المعادن وصك النقودوالمعدات الحربية والأدوات الطبية والجراحية، وكذلك بناء الجسور والقنواتالمكشوفة وجر المياه والتدفئة والتبريد وأنظمة الري والحمامات العامةوأبراج المراقبة والتحصينات العسكرية، وسواها من المنشآت والإنشاءاتوالابتكارات والاكتشافات التي يعترف الغرب اليوم بفضلها للعرب وحضارتهم.
وبهذاتكون الحضارة العربية الإسلامية قد قدمت للحضارة العالمية إسهامات رئيسيةمايزال العالم يستخدمها اليوم، مدينًا بها للعرب بالسبق والابتكار.