بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري
وردت قصة لقمان الحكيم رضي الله عنه في سورة واحدة حملت اسمه, وانحصرت وصاياه الجليلة مع ابنه ما بين الايات 12- 19
في قلب القارة الافريقية وتحديدا في سودان مصر النوبة ولد ونشأ الطفل لقمان بن ياعور, وقد كان أسود البشرة, غليظ الشفتين, اجعد الشعر, قصير القامة, ولعلّ هذه الصفات التي فطرها الله عزوجل على لقمان رضي الله عنه لندرك أنّ الايمان في القلب وليس في الشكل والمظهر, فالله عزوجل لا ينظر الى أجسامنا ولا أشكالنا ولكن ينظر الى قلوبنا وما يرسخ فيها من تقوى الله عزوجل.
وقد ورد في بعض كتب التفاسير أنّ لقمان هو ابن اخت ايوب عليه السلام، وبعضها ذكر أنه ابن خالته, أو ابن خالته، كان وعاش حتى أدرك نبي الله داود عليه السلام فأخذ منه العلم وآتاه الله الحكمة، ولم يكن نبياً عند الجمهور , وقال ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لم يكن لقمان نبياً، ولكن كان عبداً كثير التفكير، وحسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمنَّ عليه بالحكمة، وخيره في ان يجعله خليفة يحكم بالحق، فقال: رب إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء، وإن عزمت عليّ فسمعاً وطاعة فإنك ستعصمني، واخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي مسلم الخولاني رضي الله عنه، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لقمان كان عبداً كثير التفكر، حسن الظن، كثير الصمت، أحب الله فأحبه الله تعالى، فمن عليه بالحكمة. نودي بالخلافة قبل داود عليه السلام، فقيل له يا لقمان، هل لك ان يجعلك الله خليفة تحكم بين الناس بالحق؟ قال لقمان: إن أجبرني ربي عزَّ وجل قبلت، فإني أعلم أنه إن فعل ذلك أعانني وعلمني وعصمني، وإن خيرني ربي قبلت العافية ولا أسأل البلاء، فقالت الملائكة: يا لقمان لِمَ؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه الظلم من كل مكان، فيخذل أو يعان، فإن أصاب فبالحري أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكون في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً ضائعاً، ومن يختار الدنيا على الآخرة فاتته الدنيا ولا يصير إلى ملك الآخرة. فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فغط بالحكمة غطا، فانتبه فتكلم بها، وعن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم أنّ كان لقمان قاضيا في بني إسرائيل، نوبيا أسود مشقق الرجلين ذا مشافر، وذات يوم قال له رجل كان قد رعى معه الغنم: ما بلغك يا لقمان ما أرى؟ قال: صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني، وقال ابن المسيب: كان من سودان مصر، من النوبة، وقال خالد بن الربيع: كان نجاراً، وقيل: كان خياطاً، وقيل: كان راعياً.ويقال بأن قبر لقمان الحكيم عند طبرية...والله وحده أعلم..
كان لقمان رضي الله عنه يغدو في الغابات الكثيفة الشجر, ويتسلق الجبال الوعرة,ولأنه كان يمشي حافي القدمين فقد تشققت قدماهواستغلظ عوده فشب قويا متينا, عدا عن الحيوانات الضارية زادته صلابةً وجُرأةً واقداماً وشجاعةً.
عُرفَ عن لقمان رضي الله عنه انه كان دائم التأمل والتفكير والنظر في الطبيعة وما حولها من الحيوانات والطيور زكل شيءٍ يقع عليه نظره ويلفت انتباهه.
وذات يومٍ وبينما كان لقمان رضي الله عنه في تطوافه في الغابات, اذ شعر بالارهاق يتسلل الى بدنه فجلس ليستريح في ظل شجرة , لكن النعاس غلبه فأطبق جفنيه واستسلم للنوم وراح بعدها في سبات عميق, وجاءه في منامه ملكٌ من عند الله عزوجل يُبشرهُ بالاختيار والاصطفاء, وخيّرَهُ بين النبوة والحكمة, فاختار الحكمة على النبوة حوفاً من ألا يُطيقَ اعباء النبوة.
وفي يوم وقع لقمان رضي الله عنه أسيراً في أيدي اللصوص النخاسين (تجار الرقيق) فبيع في أسواق النخاسة رقيقا مملوكا
وكانت هذه الحادثة أولى تجاربه الانسانية والتي من خلالها تفجرت حكمته, وانبثقت منها كالفجر الصادق يبدد الظلام ويقمع السواد, كما أنها كانت مقدمة لتحرزه من القيود والأغلال التي هو فيها, ثم ارتقاءه في مدارج المراكز الاجتماعية واعتلائه أرفع المناصب.
لقد صبر على ما هو فيه من أذى نفسيي, وتحمّل هوان العبودية والرق بقلبٍ يُضيءُ بنور الأمل والايمان بالله عزوجل , بانتظار الفرج
وذات يوم كان سيده قد طلب اليه أن يذبح شاة ويستخرج منها أخبث ما فيها, اطيب ما فيها, ولما ذبح لقمان رضي الله عنه الشاة آتى سيده بالقلب واللسان قائلا له: يا سيدي هذين أخبث وأطيب شيء في الشاة, فتعجب سيده في دهشةٍ , وقال له كيف يكون هذا؟ فقال: انهما يا سيدي أطيبَ شيءٍ ان طابا, وأخبث شيءٍ ان خبُثا
وكانت هذه الحكمة المتفجرة منه رضي الله عنه سببا في تحوّل سيده عن معاملته معاملة العبد الرقيق , ثمّوظلّ على تلك الحال حتى اذن الله بالفرج وتحرّر لقمان من العبودية
بعد ذلك ذاع صيت لقمان رضي الله عنه في كل أنحاء البلاد وانتشر في كل مكان , بفضل القول الصائب , والرأي الحكيم, والتدبير السليم التي اشتهر بهم
وطوّحت به الأيام شرقاً وغرباً متنقلا في شتى بقاع الأرض, الى أن استقر أن تسلم القضاء في بني اسرائيل في عهد نبوة داوود عليه الصلاة والسلام.
وتزوّج لقمان رضي الله عنه وأنجب , وكانت أولى واجباته الأبوية: التربية الصالحة بالتوجيه السليم والنصيحة الخالصة
ولما عقل ابنه البكر وصّاه لقمان رضي الله عنه بوصيايا تركزت على قاعدتين راسختين: هما العقيدة والسلوك, وهاتين العقيدتين هما أساس كل دين, وعلى مستوى العقيدة أمر ابنه بعدم الشرك بالله تعالى والاحسان الى أبويه وان كان مشركين أو كافرين, وان حاولا ابعاده عن دينه فلا يطيعمها من منطلق أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
وبيّن له بعض الحقائق الأزلية الكونية ليربطه بالله عزوجل وحده, فالرزق والقدر والسلطان المطلق كلها بيد الله سبحانه وتعالى, وليس للأبوين ولا لغيرهما من أهل الأرض أي سيطرة
وأوصاه أنّ الطاعة لا تكون الا لله وحده لا شريك وأمره باقامة الصلاة
ولو عدنا الى الوصايا العشر في سورة الانعام الايات 151- 152- 153 لوجدناها لا تخرج كثيرا عن وصايا لقمان رضي الله عنه لابنه
وعلى مستوى السلوك في ميدان الحياة فقد اوصاه بأنه كي يكون السلوك في ميدان الحياة سليما قويما لا بدّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ومواجهة أي انحراف في المجتمع, ولتحقيق هذا فانه يقتضي الصبر على الآداء والايذاء مقرونا بالتواضع في التعامل مع الاخرين
ونحن نقول لو انّ كل راعٍ على أبناءه التزم بوصايا لقمان رضي الله عنه وعلمّها أبناءه وبناته, لما وجدنا مجتمعاً متفككا بأبناء تتسكع في الشوارع وتقف على نواصيها, ولا وجدنا عاقٌّ ولا عاقةٌ, ولخلت السجون من روادها, ولصلح حال المجتمع كله
وهكذا يترك لقمان رضي الله بصماته في التاريخ من خلال نصائحه الغاليات لابنه, ويطويه الزمن بثوبه, ويُغَيِّبَهُ في جوفه
وقد ختم الله عزوجل سورة لقمان بخمس غيبيات لا يعلمهم أحدٌ من الخلق, ولاينبغي أن يعمهم أحد من الخلق, يقول المولى عزوجل
انّ اللهَ عندَهُ , علمُ الساعةِ ويُنَزِّلُ الغيْثَ ويعلمُ ما في الأرحامِ, وما تدري نفسٌ ماذا تكسِبُ غداً, وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموت, انّ اللهَ عليمٌ خبيرٌ.
وبهذه الآية الكريمة نأتي على مسك الختام لهذه القصة القرآنية العظيمة