أيّها المسلمون، الأيّام تمرُّ عجلَى، والسّنون تنقضِي سِراعًا، وكثيرٌ من الناسِ في غَمرةٍ ساهون وعن التّذكِرة معرِضون، وفي التنزيل العزيز: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا {الفرقان:62}.
ولما كان العُمر يا عبادَ الله محدودًا وأيّامُ العَبدِ في هذه الدّنيا معدودَة فقد امتنَّ الله على عبادِه بمواسمِ الخيرات ومِنَح النّفَحات، وأكرَمَ بأيّامٍ وليالٍ خصَّها بمزيدٍ منَ الشَّرَف والفَضلِ وعَظيمِ الثّوابِ ومُضَاعَفة الأجرِ، وجعَل فيها بمنِّه وكرَمِه ما يُعوِّض فيهِ الموفَّق قِصَرَ حياتِه وتقصيرَ أعماله. وإنّ أيّامَكم هذه من أفضلِ الأيّام، وهذه العَشرُ الأخيرةُ هي الأفضَلُ والأكرَم.
محاسبة النفس
ما أحوجَ العبدَ إلى موقفِ المحاسبة في هذه الأيّام الفاضلة، إنها مناسَبَة مناسِبَة من أجل التّغيير والتصحيح والإصلاحِ في حياة الفرد وفي حياةِ الأمة، يقول رسول الله صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبه وسلّم: "إذا دخل رمضانُ فتِّحت أبواب الجنّة وغُلِّقت أبوابُ النار وسُلسِلت الشياطين" أخرجه الترمذي، وفي روايةٍ أخرى: "إذا كانَ أوّل ليلة من رمضانَ صُفِّدت الشياطين ومردَةُ الجنّ، وفُتِّحت أبواب الجنة فلم يغلَق منها باب، وغلِّقت أبواب النار فلم يُفتَح منها باب، وينادي منادٍ: يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغيَ الشرِّ أقصر، ولله عتقاءُ من النّار، وذلك كلَّ ليلة". إنها فرصة للمحاسبة وفرصةٌ للإصلاح وفرصة للتغيير، "يا باغيَ الخير أقبِل، ويا باغيَ الشرّ أقصر".
ومن أجلِ مزيدٍ منَ التأمُّل واستشعارٍ جادٍّ للمحاسَبَة وإدراكٍ عميق لهذه الفرصَة السانحة هل تأمَّلتم في دعاءٍ يردِّده المسلمون في هذا الشهرِ الكريم، وبخاصّةٍ في مثل هذه الأيام حين تبدأ أيّام الشهر في الانقضاءِ وهِلاله بالأفول، ويستشعرون فِراقَه ويعيشون ساعاتِ الوداع ومشاعِر الفِراق، دعاءٌ يصاحبه دفقٌ شعوريّ مؤثِّر من القلوبِ الحيَّة والنفوسِ المحلَِّقةِ نحوَ السموّ بشعورٍ إيمانيّ فيّاض، يرفَعون أيديَهم مُناشدين ربَّهم ومولاهم: "اللهمَّ اجعله شاهدًا لنا، لا شاهدًا علينا". هل تأمَّلتم هذا الدعاءَ؟! وهل فحَصتم مضامينَه وعواقبَه وحقيقتَه ونتيجتَه؟!
أيّها الصائمون، إنّ شهادةَ شهرِ رمضان غيرُ مجروحةٍ، إنّه موسم يتكرّر كلَّ عامٍ، يشهد على الأفرادِ، ويشهَد على الأمة، إنّه يشهَد حالَكم، فهل سيشهَد لنا أو يشهَد علينا؟! يرقب حالَنا؛ هل سوف يزدرِينا أو سوفَ يغبِطنا؟! ماذا في استقبالنا له؟! وماذا في تفريطنا فيه، بل في كلّ أيّام العام والعُمر؟ هل نجتهد فيه ثم نضيِّع في سائرِ أيّام العام؟!
الأيّام تشهَد، والجوارِح تشهد، والزّمان يشهد، والمكان يشهَد، إنّ تأمُّلَنا في شهادة هذا الشهر الكريم لنا أو علينا فرصَة عظيمةٌ صادقة جادّة في المحاسبة ومناسبةٌ حقيقيّة نحو التغيير والتعويض، "يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغيَ الشرّ أقصر". وقد يكون لشهادةِ رمضان المعظَّم نوعٌ من التميُّز ولونٌ من الخصوصيّة، لماذا؟ لأنَّ شهرَ رمضانَ هو شهر الصّبر، شهر مقاومة الهوى وضبطِ الإرادة ومقاومَة نزوات النفس ونوازعها.
شهر رمضان معاشرَ الصائمين ميدانُ التفاوت بين النفوسِ الكبيرة والنفوسِ الصغيرة، بين الهِمَم العالية والهِمَم الضعيفة. هذا الشهرُ الشاهد فرصةٌ حقيقيّة لاختبار الوازِع الداخليّ عند المسلم، الوازع والضمير هو مِحوَر التربية الناجحة.
خصائص الصيام
ومن أجل مزيد من التأمُّل والنظَر والفحص في هذه الشهادةِ الرمضانية فلتنظُروا في بعض خصائصِ الصّيام وأحوال الصائمين. الصّوم سرٌّ بين العبدِ وبين ربِّه، وقد اختصَّه الله لنفسِه في قوله سبحانَه في الحديث القدسي: "الصّوم لي وأنا أجزِي به، يدَع طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجلي".
أيّها الإخوة في الله، الصومُ عن المفطّرات الظاهِرَة يسيرٌ غير عسير لكثيرٍ من الناس، يقول ابن القيم رحمه الله: "والعبادُ قد يطَّلعون من الصائمِ على تركِ المفطرات الظاهرةِ، وأما كونه ترك طعامَه وشرابه وشهوتَه من أجل معبودِه فهو أمر لا يطّلع عليه بشَر، وتلك حقيقة الصوم".
واقرِنوا ذلك رحمكم الله بقوله : "من صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدرِ إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه". مَن تُرى يحقِّق الإيمانَ والاحتساب على وجهه يا عباد الله؟! "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر".
أحوال الناس في رمضان
تأمّلوا أحوالَ بعض الصائمين مع الطعامِ وفضول الطعام، يسرِفون على أنفسِهم في مطاعمهم ومشاربهم ونفقاتهم، يتجاوَزون حدَّ الاعتدال والوسَط، ساعدهم في ذلك إعلامٌ هَزيل قد جعَل مساحاتٍ هائلةً للأكل والموائد مع ممارساتٍ غير سويّة من التجارِ والمستهلكين.
وتأمّلوا حفظكم الله وأنتم في رحابِ هذا الشهرِ الشّاهد، تأمّلوا أحوالَ بعض الغافِلين الذين يضيِّعون هذه الأوقاتَ الفاضلةَ والليالي الشريفة مع اللهوِ والبطّالين فيما لا ينفَع، بل إنّ بعضها فيما يضرّ ويُهلك ويفسِد الدّينَ من الغيبة والنميمةِ والمسالك المحرَّمة، انقلبت عليهم حياتهم ليجعَلوا نهارَهم نومًا وليلَهم نهارًا في غير طاعةٍ ولا فائدة، لا لأنفسِهم ولا لأمّتهم، تجمّعاتٌ ليليَّة، إمّا تضييع للواجباتِ والمسؤوليات، وإمّا وقوع في المنهيّات والمهلكات، يعينهم في ذلك قنواتٌ وفضائيّات في مسلسلاتٍ هابطة وبرامجَ للتسلية هزيلة.
بل إنَّ التأمّلَ في فضول الكلام أيّها الصائمون لا ينقضي منه العجَب، حتى في أحوالِ بعض الصالحين والمتعبِّدين ممن ينتسِب للعلم والدّين والدعوة، فلا يكاد الغافِل منهم يُفكِّر في فضولِ الكلام فضلاً عن أن يفكِّر في تجنُّبِه، ولكثرةِ كلامهم فقَدوا السَّمتَ وقلَّت عندهم الحِكمة وخلَطوا الجدَّ بالهزل، ناهيكم في الوقوعِ في داء الغيبةِ والنميمة والكذِب والرياء والسمعة.