مقارنة بين الأحرف السبعة والقراءات
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
إن الله تعالى خلق الخلق كافة ، وخلق العرب وجعل لهم لهجات متعددة ولغات شتى وكانت لغة قريش لها الصدارة لعدة أسباب منها:
وجودهم في جوار بيت الله الحرام وقيامهم على السقاية والرفادة والسدانة وخدمة الحجيج واشتغالهم بالتجارة واختلاطهم ببقية العرب لذلك اقتضت حكمة الحكيم العليم جل وعلا أن ينزّل القرآن الكريم باللغة التي يفهمها العرب للتيسير عليهم ولإعجازهم ولتحدي أرباب الفصاحة والبلاغة بأن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بسورة منه أو بآية منه فأعجزهم ، وتحداهم فقال جل وعز { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين }[ البقرة: 23 – 24 ] وقال جل شأنه { إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون }[ يوسف: 2 ] .
أولاً: الدليل على نزول القرآن على سبعة أحرف:
كذلك الحال لقد اقتضت حكمة الخبير العليم أن ينزّل القرآن المجيد على سبعة أحرف جاء في البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ للبخاري عن سيدنا عمر رضي الله عنه يقول { سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره – أي أقاتله – في الصلاة فانتظرته حتى سلم فلبّبته بردائه فقلت من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت ، ثم قال: اقرأ يا عمر فقرأتها التي أقرأنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه }(1) .
صدق سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثانياً- كثرة طرق هذا الحديث الشريف [ حتى بلغ مرتبة الحديث المتواتر]:
لقد ورد حديث { نزل القرآن على سبعة أحرف } من رواية جمع من الصحابة:
أُبَيّ بن كعب وأنس وحذيفة بن اليمان وزيد بن أرقم وسمرة بن جندب وسليمان بن صُرَد وابن عباس وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعمر بن الخطاب وعمر بن أبي سلمة وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل وهشام بن حكيم وأبي بكرة وأبي جهم وأبي سعيد الخدري وأبي طلحة الأنصاري وأبي هريرة وأبي أيوب فهؤلاء أحد وعشرون صحابياً رضي الله تعالى عنهم وقد نص أبو عبيد على تواتره (2).
ثالثاً- الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف:
التيسير على الأمة الإسلامية . لذلك قال الإمام ابن الجزري : وأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها والتهوين عليها شرفاً لها وتوسعة ورحمة وخصوصية لفضلها وإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم حيث أتاه جبريل فقال له { إن الله يأمرك أن تقرأ أمتُك القرآن على حرف فقال صلى الله عليه وسلم أسأل الله معافاته ومعونته – وفي رواية – إن أمتي لا تطيق ذلك } (3) ولم يزل يردد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف وكما ثبت صحيحاً { إن القرآن نزل على نبيكم صلى الله عليه وسلم من سبعة أبواب على سبعة أحرف وإن الكتاب قبله كان ينزل من باب واحد على حرف واحد } (4) وذلك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يبعثون إلى أقوامهم الخاصين بهم والنبي صلى الله عليه وسلم بُعث إلى جميع الخلق أحمرها وأسودها عربيها وعجميها وكانت العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة وألسنتهم شتى ويعسر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها أو من حرف إلى آخر بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولو بالتعليم والعلاج لا سيما الشيخ والمرأة ومن لم يقرأ كتاباً كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم فلو كلّفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يُستطاع وما عسى أن يتكلف المتكلف وتأبى الطباع (5) ا.هـ.
رابعاً- معنى نزول القرآن على سبعة أحرف:
الأحرف جمع حرف والحرف في أصل كلام العرب معناه الطرف والجانب وحرف السفينة والجبل جانبهما ومنه قوله تعالى: { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين } [ الحج: 11] .
أي وجه واحد وهو أن يعبده على السراء لا على الأرض أو على شك أو على غير طمأنينة من أمره أي لا يدخل في الدين متمكناً (6) .
خامساً- اختلاف العلماء في تفسير الأحرف السبعة الواردة في الحديث:
1- ذهب أكثر العلماء على أنها لغات ثم اختلفوا في تعيينها فقال: قريش وهذيل وثقيف وهوازن وكنانة وتميم واليمن (7) .
2- وقال بعضهم: إن المراد بالأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن سبعة أصناف في القرآن ولكنّ أصحاب هذه الأقوال يختلفون في تعيين هذه الأصناف وفي أسلوب التعبير عنها اختلافاً كبيراً فمنهم من يقول: إنها [ أمر ونهي وحلال وحرام ومُحكم ومتشابه وأمثال ] ومنهم من يقول: إنها [ وعد ووعيد وحلال وحرام ومواعظ وأمثال واحتجاج ] ومنهم من يقول: إنها [ محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخصوص وعموم وقصص ] (
.
3- أن المراد بالأحرف السبعة أوجه من الألفاظ المختلفة في كلمة واحدة ومعنى واحد نحو: هلم وأقبل وتعالَ وعجل وأسرع وقصدي ونحوي فهذه الألفاظ السبعة معناها واحد وهو طلب الإقبال وهذا القول منسوب لجمهور أهل الفقه والحديث منهم ابن جرير الطبري والطحاوي وغيرهما .
· أن المراد بالأحرف السبعة الاختلاف في أمور سبعة:
أ- اختلاف الأسماء إفراداً وتذكيراً وفروعهما: مثاله قوله تعالى: ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون )[ المؤمنون: 8 ] فكلمة { أماناتهم } قرئت بالجمع والإفراد ، والإفراد هي قراءة ابن كثير المكي .
ب- الاختلاف في تصريف الأفعال من مضارع وماض وأمر: مثاله قوله تعالى: { ربَّنا باعدْ بين أسفارنا }[ سبأ: 19 ] قرئ بنصب لفظ {ربَّنا} على أنه منادى وبلفظ { باعد } فعل أمر وهي قراءة عاصم ونافع ومن وافقهما وقرئ { ربُّنا باعدَ } برفع { ربُّ } على أنه مبتدأ وبلفظ { باعدَ } فعلاً ماضياً وهي قراءة يعقوب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر { ربَّ بَعِّد } على أنه فعل أمر مضعف .
ج- الاختلاف بالإبدال سواء كان إبدال حرف بحرف كقوله تعالى: { وانظر إلى العظام كيف ننشزها }[ البقرة: 259 ] وهي قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو ويعقوب .
د- الاختلاف بالتقديم والتأخير مثاله قوله تعالى: { فيَقتُلون ويُقتَلون } [ التوبة: 111 ] فلقد قرأ حمزة والكسائي وخلف { فيُقتَلون ويَقتُلون } .
هـ- الاختلاف في وجوه الإعراب كقوله تعالى: { ذو العرش المجيدُ } [البروج: 15] برفع المجيد على أنه صفة لكلمة ذو العائدة على { وهو الغفور الودود }[البروج: 14] ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالجر { المجيدِ } على أنها صفة للعرش .
و- الاختلاف بالزيادة والنقص: مثاله قوله تعالى: { ومن يتولَّ فإن الله هو الغني الحميد }[ الحديد: 24 ] فقد قرأ نافع وأبو جعفر وابن عامر { ومن يتولَّ فإن الله الغني الحميد }.
ز- اختلاف اللغات – يعني اللهجات – من فتح وإمالة وترقيق وتفخيم وتحقيق وتسهيل وإدغام وإظهار ونحو ذلك وهو كثير ومنه الإمالة وعدمها في مثل قوله تعالى: { هل أتاك حديث موسى }[ النازعات: 15 ] فقد أمالها حمزة والكسائي وخلف وقللها ورش عن نافع من طريق الأزرق وفتحها وقللها أبو عمرو البصري وفتحها الباقون من القراء .
وهذا الرأي الأخير قد ذهب إليه الإمام الرازي وقاربه كل القرب مذهب ابن تيمية والإمام الحافظ ابن الجزري وابن الطيب وقد أخذ به الشيخ الزرقاني في كتابه ( مناهل العرفان ) .
الترجيح :
وأقرب الوجوه إلى الصواب هو المذهب الأخير الذي اختاره الرازي وابن الجزري واعتمده الزرقاني في كتابه ( مناهل العرفان ) (9) .
سادساً- هل المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة ؟
1- ذهب جماعات من الفقهاء والقراء والمتكلمين إلى ذلك وبنوا عليه أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء منها وقد أجمع الصحابة على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها سيدنا أبو بكر وأجمعوا على ترك ما سوى ذلك .
2- وذهب جماهير من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أنها مشتملة على ما يحتمل رسمها من الأحرف السبعة فقط جامعة للعَرْضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل متضمنة لها لم تترك حرفاً منها قال ابن الجزري: وهذا هو الذي يظهر صوابه .
ويجاب عن الأول بما ذكره ابن جرير: أن القراءة على الأحرف السبعة لم تكن واجبة على الأمة وإنما كان جائزاً لهم ومرخصاً لهم فيه فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف إذا لم يجتمعوا على حرف واحد اجتمعوا على ذلك اجتماعاً شائعاً وهم معصومون من الضلالة ولم يكن في ذلك ترك واجب ولا فعل حرام ولا شك أن القرآن نسخ منه في العَرْضة الأخيرة وغُيِّر فاتفق الصحابة على أن كتبوا ما تحققوا أنه قرآن مستقر في العرضة الأخيرة وتركوا ما سوى ذلك (10) .
أخرج ابن أشته في [ المصاحف ] وابن أبي شيبة في فضائله من طريق ابن سيرين عن عَبيدة السلماني قال ( القراءة التي عُرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قُبض فيه هي القراءة التي يقرؤوها الناس اليوم ) .
وأخرج ابن أشته عن ابن سيرين قال ( كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم كل سنة في شهر رمضان مرة فلما كان العام الذي قُبض فيه عارضه مرتين فيرون أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة ) .
وقال البغوي في شرح السنة: يقال: إن زيد بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بُيّن فيها ما نسخ وما بقي وكتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأها عليه وكان يقرئ الناس بها حتى مات وكذلك اعتمده سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر في جمعه ، وولاه سيدنا عثمان كتب المصاحف (11) .
سابعاً- بعض الشبهات على الموضوع والرد عليها:
أ- الشبهة الأولى:
يقولون: إن المراد بالأحرف السبعة هي القراءات السبع المنقولة عن الأئمة السبعة المعروفين عند القراء .
الرد عليهم: ينبغي أن لا يتوهم متوهم في قوله صلى الله عليه وسلم { أنزل القرآن على سبعة أحرف } أنه منصرف إلى قراءة سبعة من القراءة الذين ولدوا بعد التابعين لأنه يؤدي لأن يكون الخبر عارياً عن الفائدة إلى أن يولد هؤلاء الأئمة السبعة فيؤخذ عنهم القراءة ويؤدي أيضاً إلى أنه لا يجوز لأحد من الصحابة أن يقرأ إلا بما يعلم أن هؤلاء السبعة من القراء إذا وُلدوا وتعلموا اختاروا القراءة به وهذا تجاهل من قائله وإنما ذكرت ذلك لأن قوماً من العامة يقولونه جهلاً ويتعلقون بالخبر ويتوهمون أن معنى السبعة الأحرف المذكورة في الخبر: اتباع هؤلاء الأئمة السبعة وليس ذلك على ما توهموه بل طريق أخذ القراءة أن تؤخذ عن إمام ثقة لفظاً عن لفظ إماماً عن إمام إلى أن يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم بجميع ذلك (12) .
ب- الشبهة الثانية:
يقولون: إن أحاديث نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف تثبت الاختلاف مع أن القرآن نفسه ينفي الاختلاف بقوله تعالى: { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [ النساء: 82 ]وذلك تناقض ولا ندري أيهما الصادق.
الرد على الشبهة:
إن الاختلاف الذي تثبته الأحاديث غير الذي ينفيه القرآن وعلى هذا كلاهما صادق إذ أن الاختلاف الذي تثبته الأحاديث فيما يتعلق بطرق الأداء والنطق بألفاظ القرآن في دائرة محدودة لا تعدو سبعة أحرف وبشرط التلقي فيها كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى هذا يكون الاختلاف في الأحاديث بمعنى التنويع .
أما القرآن فينفي التناقض بين أحكامه ومعانيه وتعاليمه مع ثبوت التنويع في التلفظ والأداء (13).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد إمام الأنبياء والمرسلين