بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلام كما أنه دين رباني فهو نظام اجتماعي يربط المرء بريه وبالآخرين؛ فالفروض الشرعية كالصلاة والصدقة ونحوها هي أشكال اجتماعية تنحو إلى بناء مجتمع متكاتف فيما بينه. إلا إننا نلحظ أن هذا البناء الاجتماعي فقد حسه لدى بعض الناس حتى ظن الجاهل أن تخلفنا هو بسبب بنيتنا الاجتماعية، وتصور أن تطورنا يكون بتقليد الأمم المتقدمة مادياً، تقليداً في السلوك والثقافة والفكر ولم يتوقف الأمر على ذلك بل اتجه إلى ما هو أعمق وأخطر وهو تقليد المنهج.
وهذا تصور ساذج سطحي فأمتنا قوتها في تفردها وتميزها عن المناهج الأرضية فمنهجها الاجتماعي مختلف لأن أصوله تنبع من الوحي؛ ولهذا عندما أصبحنا صدى سيء للمنتج الفكري والثقافي والسلوكي الغربي والشرقي، كان ذلك من أشد الأسباب للتفكك والفوضى الاجتماعية التي نعيشها. فتقليدنا للآخر فقدنا القدرة على الإبداع والإنتاج والتنافس. فلبناء مجتمعا مستقلاً متميزاً فريداً لابد أن يكون ذلك البناء على منهج القرآن والسنة والتي أثمرت مجتمعاً فريداً لم يرى التاريخ مثله.
وبعد البناء الإيماني لابد أن يكون لدى المرء هماً ذاتياً يحدث له تغيرا خارجياً ينقله من السكون والخمول والعادات السلبية إلى الحركة والبناء، ففقدان الهم الداخلي يجعل المرء بعيداً عن المساهمة في البناء والتكوين، لذا من المهم جداً أن نهتم بأفكارنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا في حياتنا اليومية إذ هي تساهم بجزء ما في تشكيل عالمنا وبالتالي تشكيل المجتمع.
ولا يكتفي المرء بالمراقبة الذاتية؛ بل من المهم أيضاً أن يسأل المرء نفسه: على ماذا بنيت علاقتي بالآخرين؟ هل هي مبنية على الحب في الله تعالى والتآخي أم مبنية على المصلحة والضرورة الاجتماعية؟ فأساس بناء العلاقات بين الآخرين له دور في تكوين وتشكيل المجتمع فالحقد والبغضاء والحسد والرغبة في التصدر وعدم احترام الآخرين وغيرها من السلوكيات والعادات السيئة تظهر نتيجتها ـ بطريقة ما ـ في علاقاتنا مع بعضنا وبالتالي يُبنى على هذا العلاقات المجتمع، والتي تكون نتيجته محاولة الهروب من المجتمع وتشكيل مزيداً من المأساة في المجتمع.
ولو تأملنا قليلاً في الفوضى والفساد والمآسي التي يعشها مجتمعنا نجد أننا نشكل جزءا من إحداث هذه الفوضى والمآسي، نحن شكلناها على وفق علاقاتنا مع بعضنا بعض ووفق ما بأنفسنا، فإذا كانت الفوضى والمأساة والاضطراب في ذواتنا فإنها تنعكس على عالمنا الخارجي وبالتالي يتشكل مجتمعنا بهذه الصورة، فالمجتمع ـ في إحدى صوره ـ هو علاقة بيني وبينك، وهو نتيجة لهذه العلاقة، فإذا كانت علاقاتنا فوضوية أنانية فالمجتمع يكون كذلك.
ويتساءل المرء: هل يمكن أن يكون هناك مجتمعا ساكنا خاملا وأفراده متحركين منفعلين؟
بالطبع لا يمكن، لأن المجتمع نتاج الأفراد، فتلك المجتمعات التي أحدثت تغيراً جذرياً في بنيتها وتركيبها لا يمكن أن يحدث لها ذلك ما لم يكن هناك تغيراً جذرياً داخلياً في الأفراد، فالاهتمام بالظواهر والشكليات والماديات الخارجية في سبيل التغيير الاجتماعي هو بناء غير تأسيسي حيث عكست القاعدة فجعلت القاعدة فوق البناء. فلبناء مجتمعاً إيمانياً عملياً منظماً علينا أن نتجه للفرد من الداخل، نتجه لعقيدته وتصوراته وأحاسيسه ومشاعره وأفكاره ومفاهيمه علينا أن نخاطب هذه المنظومة خطاباً بناءاً تجديدياً، نزيل ما بالنفس من خرافات وبدع ومفاهيم مغلوطة وتصورات خاطئة عن الإنسان والحياة والكون وقبلها عن الدين فالمعالجة الاجتماعية لا تنجح ما لم يسبقها معالجة داخلية للفرد.هذه نقطة جوهرية وليست شكلية، فالمعالجة الخارجية لا تحدث تغير جذري وبناء تكاملي؛ بل التغيير المجتمعي الخارجي دون البناء الذاتي هو كبناء غطاء جميل على كومة من المتلوثات مع مرور الوقت يفسد هذا الغطاء ويظهر ما به من آفات.
إننا نرى في المجتمع قضايا وليدة مستحدثة غريبة على مجتمعنا، نرى تشققات في بعض نواحي مجتمعنا تتطلب حلولاً سريعة ومعالجات إبداعية، الأمر يتطلب تحركاً سريعاً ذاتياً داخلياً أولاً ثم تحركاً مجتمعياً؛ ويكون هذا التحرك مبنياً على إدراك أسباب ضعف المجتمع كي نعيد بناءه من جديد على أسس إيمانية ربانية بعيدة عن تقليد الغرب والشرق، فمجتمعنا لابد أن يكون له خصوصيته وتفرده، وأعيد؛ فلسنا كالمجتمعات الأخرى؛ فنحن أصحاب منهج رباني يتميز عن أي منهج أرضي وبالتالي لابد أن يتميز أصحاب هذا المنهج عن غيرهم في التعامل مع الإنسان والحياة ككل.
ويتساءل المرء: هل الفرد مجرد آلة في المجتمع أو هو نهاية المجتمع؟ هل المجتمع وجد من أجل الفرد؟ هل أنت وأنا كأفراد يتحكم فينا المجتمع والدولة في التوجيه والتعليم والتثقيف والتشكيل ؟ هناك من يرى أن المجتمع هو الذي يشكل الفرد وبعضهم يرى العكس. فإذا كان الفرد مجرد آلة في المجتمع، فالمجتمع يكون أكثر أهمية من الفرد، فعلينا أن نتخلى عن الفردية ونعمل من أجل المجتمع فتكون الأنظمة الاقتصادية والتعليمية والتثقيفية بالكامل متجه إلى البناء المجتمعي ونتخلص من الفردية ونجعل الفرد كآلة لخدمة المجتمع. أما إذا كان العكس بأن وجد المجتمع من أجل الفرد فلا تكون وظيفة المجتمع تشكيل الفرد وإنما إعطاءه الحرية والقيمة الفردية لتشكيل ذاته وبناء أفكاره.
والحقيقة أن العلاقة بين الفرد والمجتمع علاقة تكاملية وإن كانت المصلحة الاجتماعية تقدم على المصلحة الفردية عند التعارض إلا إن الفرد لا يفقد حقه بل يعوض ما فقده من أجل المحافظة على حقوقه وبالتالي المحافظة عليه فكراً وسلوكاً وانضباطاً. فالعلاقة تكاملية فلا يمكن أن يعيش الإنسان دون مجتمع يعيش فيه ولا يمكن للمجتمع أن يرتقي دون الأفراد، فعلى الأفراد أن يقوموا بمهام اجتماعية كي يكون المجتمع أكثر انتظاماً وقدرة على حماية وصيانة أفراده؛ فكما أن الفرد يريد من المجتمع أشياءً فعليه أن يقدم هو للمجتمع شيئاً. وهذه ليست ميزة فريدة للإنسان بل حتى الحيوانات تحتاج أن تعيش في مجتمع. وهذا خلاف ما يذهب إليه الفكر الغربي الحديث والذي يعمل على غرس الفردية وتعزيز الانفصال عن المجتمع وجعل الحقوق الفردية لها الأولية والأسبقية وخصوصاً بعد سقوط النظام الشيوعي وسيطرة الرأسمالية. إذ أصبح الفرد يعيش لذاته ولهمومه الشخصية.
ولو تأملنا المجتمع في نظر أحد فلاسفة الغرب وهو "نيتشه" مثلاً والذي يمثل لديه المجتمع الحضاري هو المجتمع القوي، إذ يرى أن ضعفاء المجتمع يجب أن يقضى عليهم، وأن يفنوا فلا يحق لهم أن يعيشوا فهم مصدر كل شر وبلاء، إذ أشد الرذائل ـ في نظره ـ الشفقة على الضعفاء. ويذهب أيضا إلى أن مجتمعات العالم الحديث تظهر لنا طبيعة الإنسان أكثر مما يظهره الأفراد. فالدول لها القدرة أن تتصارع فيما بينها بخلاف الأفراد فهم ليس لديهم القوة والشجاعة لذلك، والدولة تدخل في الصراع بتقسيم الأدوار بين الأفراد فلا يشعر أحد من الأفراد بالمسؤولية تجاه عمل الدولة. فسلوك الدولة هو الحرب والصراع والعمل وفق مبدأ "إرادة القوة". وعن طريق القوة لا مجال للفرد إلا الامتثال والانصياع فهي تعزز في شعبها قيم الطاعة والمواطنة والواجب.
وسلوك القوة لا ينحصر على الدولة فقط بل حتى الفرد فهو يحاول أن يفرض سيطرته على الآخرين، فكل عمل تجاه الآخرين هو نتيجة هذه الرغبة الداخلية بأن تجعل الشخص تحت سيطرتك بأي طريقة كانت، سواء بإعطائه هدية، أو بزعم الحب له، أو بالثناء، أو بالإيذاء .. فالهدف هو فرض إرادتك على الآخرين وبالتالي تفرز قيم الانتقام والتكبر والتجبر.
ويرى "نيتشه" أن هذه الإرادة ليست شراً بل هي جزءاً أساسياً من الوجود؛ والرضا والسعادة تأتي لاحقاً كنتيجة لقدرة الكائن لأن يعيش وفق غرائزه.
فالنظرة الغريبة تأصل النزعة الفردية ـ كما ذكرنا سابقاً ـ وتعزز الأنا بإطلاق كما في الدولة أو بحصر كما في الفرد. لذلك وفق هذا الزعم لا يوجد شيء أسمه إيثار أو حب الخير للناس وإنما فرض السيطرة بأي أسلوب. وهذه النظرة تجعل الإرادة مصدر لكل الشرور والمعاناة في هذا الكون. وتجعل نزعة الإنسان حيوانية "فالعيش للأقوى"، ومجتمع يحمل هذه التصورات والرؤى ليس جديراً أن يُقرأ فضلاً أن يقلد.
وتأمل هذا الاتجاه والذي لا يقيم للضعيف وزنا مع مكانة الضعفاء في المجتمع الإسلامي حيث يقول عليه الصلاة والسلام:" إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم "، وهذه النظرة العالدة للمجتمع إذ البناء المجتمعي لابد أن يكون لجميع أفراده فلا تهمل طائفة لضعفها أو جهلها، بل المجتمع كالجسد الواحد لا يمكن أن يعيش سليماً وجزء منه مريض مهمل ففي الصحيحين وغيرهما من حديث النعمان بن بشير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" أخرجه البخاري ومسلم. ومما أخرجه الشيخان أيضاً من حديث أبي موسى رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال :"المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". والله أعلم.