السعـــداء في الآخـــرة
الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام وشرح صدورنا للإيمان ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد – صل الله عليه وسلم – وعلى آله وأصحابه أجمعين ... وبعد
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- عَنِ النَّبيِّ -صَلَّ اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ : ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادْلٌ ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ، فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ،
وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ) ( 1 ).
هذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الزكاة ، باب الصدقة باليمين.
يذكر الرسول – صل الله عليه وسلم – السعداء الأبرار الذين سيدخلون الجنة إن شاء الله ، ويبين فضل الله سبحانه وتعالى على كلّ من اتصف بواحدة من الصفات الحميدة المذكورة في الحديث السابق ، وأنهم في ظل عرش الله يوم لا ظِلَّ إلا ظله
مع أنبيائه وأصفيائه، وقد جمعهم الشاعر في قوله:
وقال النبي المصطفى إنَّ سبعـةً يُظِلّهمُ اللهُ الكريـمُ بظلـِّه
محبٌ عفيفٌ ناشئٌ متصــدقٌ وباكٍ مُصَلٍّ والإمامُ بعَدْلِه
وهؤلاء السعداء هم :
* الإمام العادل : ومن المعلوم أن ديننا الإسلامي يدعو إلى التزام العدل في شتى الأقوال والأفعال والسلوك، فالعدل هو وظيفة الرسل الكرام –عليهم الصلاة والسلام-، كما أنه غاية الرسالات السماوية، فبالعدل قامت السموات والأرض، و العدل مفتاح الحق، لذلك فقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بإقامة العدل في كتابه الكريم:
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ }
ويقول أيضا: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بالْعَدْلِ }
فعلى كل من تولى أمراً من أمور المسلمين أن يتصف بالعدل وأن يبتعد عن الظلم، سواء كانت الولاية عامة أم خاصة، كي يكون من السعداء في الآخرة إن شاء الله.
* وشاب نشأ في طاعة الله : أي أن هذا الشاب قد نشأ وترعرع منذ نعومة أظفاره
في طاعة الله ورسوله ، فالتزم بالطاعات واجتنب الموبقات ، لذلك فإن ديننا الإسلامي الحنيف يحث الشباب على طاعة الله ورسوله في جميع الأوقات، لأنها سبيل النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، فمن شبَّ على شيء شاب عليه، فالشباب هم عماد الحاضر وبناة الحضارة وأمل الأمة، وهم أصحاب الهمم العالية، والنفوس الطاهرة الزكية، لذلك أوصى بهم الإسلام خيراً في كتاب الله وسنة رسوله.
*ورجل قلبه معلق بالمساجد: ثم بين – عليه الصلاة والسلام- مكانة الرجل المسلم الذي عمر الإيمان قلبه، فالتزم بالطاعات وفي مقدمتها الصلاة التي من أقامها فقد أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين ، فحافظ على الجمعة والجماعة وأدى الصلاة في وقتها في المساجد، فبالصلاة تجتمع القلوب وتتحابب ، وتتوحد الصفوف وتجتمع على كلمة الحق والخير .
* ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه : ، ويبين – صلى الله عليه وسلم – في الحديث أن الرجلين قد تحابا في الله، وهذا الحب يجب أن يكون خالصاً لله سبحانه وتعالى وليس لأي هدف آخر، ( وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله )،
وفي ذلك دعوة للمسلمين بضرورة التحابب في الله.
*ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله : ثم يبين – صلى الله عليه وسلم – طهارة المسلم وعفته، حيث يحرص على عدم الانزلاق في طرق الغواية والضلال والمعاصي مهما كانت المغريات، لأن الخوف من الله خصلة من خصال الإيمان، فهو يعصم المسلم من الوقوع في حبائل الشيطان.
* ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه: ثم يشدد – عليه الصلاة والسلام- على ضرورة الإخلاص في الأعمال، وعدم إبطال الصدقات بالمنّ والأذى، فهذا المتصدق يقصد إخفاءها كي يكسب الأجر والثواب من الله عز وجل ، فاستحق هذا الفوز العظيم.
* ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه : ثم يختتم – صل الله عليه وسلم – الحديث الشريف بذكر هذا الرجل الذي ذكر الله، أي بقلبه من التذكر أو انه من الذكر ،
و خالياً أي من الخلو لأنه يكون حينئذ أبعد من الرياء، والمراد خالياً من الالتفات
إلى غير الله ولو كان في ملأ، وذلك ليكون أقرب إلى الإخلاص والخشوع، فمن ذكر الله ففاضت عيناه من خشية الله لا يُعَذّب يوم القيامة،
ويكون من السعداء إن شاء الله .
هيـَّـا إلى الجنة
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
( "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا .
قَالَ: "فَمَنْ تَبعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا .
قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا.
قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ "(4 ) .
لقد حرص رسولنا – صل الله عليه وسلم – على إرشادنا إلى كل خير، فما رأى أمراً يقربنا إلى الله إلا وأمرنا به ، وما رأى أمراً يبعدنا عن الله إلا وحذرنا منه، فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء .
وفي الحديث السابق يرشدنا – صل الله عليه وسلم – إلى أبواب الخير ، وإلى طريق السعادة في الدنيا والآخرة ، لذلك يجب علينا الالتزام بالهدي النبوي في أداء العبادات والنوافل، واتباع الجنائز ، وإطعام الأيتام والمساكين والفقراء، وعيادة المرضى والمصابين، فالمسلم أخو المسلم ، والمسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
صحابــة مُبَشّـــرون بالجنـــة
ومن المعلوم أن أفضل الصحابة على الإطلاق هم الخلفاء الراشدون ، ثم باقي العشرة المبشرين بالجنة، لما روي عن سعيد بن زيد – رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله – صل الله عليه وسلم- يقول:
(عشرة في الجنة : أبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعليٌ في الجنة ، وطلحة في الجنة ، والزبير في الجنة ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة ، وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة ، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة )
( والمبشرون بالجنة من الصحابة كثيرون، ولكن أبرزهم هؤلاء العشرة، ثم يأتي بعدهم في الفضل، أهل بدر ، ثم أهل أحد ، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم يأتي بعد ذلك باقي أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذكر رسولنا – صل الله عليه وسلم – بعض المناقب والفضائل لعدد من الصحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين - ، كما جاء في الحديث الشريف عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال :
قال رسول الله – صل الله عليه وسلم - :
( أرحمُ أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدُّهم في أمرِ الله عمر ، وأصدَقُهم حياءً عُثمان، وأَقْرؤُهُم لكتاب الله أُبيُّ بن كعب، وأفْرضُهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام مُعاذ بن جبل ، ألا وإنّ لكلِّ أمَّةٍ أميناً ، وإن أمين هذه الأمة أبو عُبيدة بن الجرَّاح )
(6 ).
إن السعادة لا تكون بالمال الوفير ولا بالمنصب الرفيع كما قال الشاعر:
ولستُ أرى السعادة جمع مال ولكنَّ التقيَّ هو السعيدُ
وتقوى الله خيرُ المالِ ذخْــراً وعندَ اللهِ للأتقى مزيـدُ
إن السعادة تكون بالإيمان والتقوى، والعمل الصالح، ولزوم المساجد، والإيمان بالقدر خيره وشره، والرضى بما قسم الله عز وجل، والاستقامة في القول والعمل ، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، والإكثار من ذكر الله عز وجل ، واتباع هدي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، كما قال تعالى :
{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى*قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}(7).
وصل الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين