المغيبات الخمس
وأثرها في حياة الناس
المغيبات الخمس
الأولى : إن الله عنده علم الساعة.
الثانية : وينزل الغيث.
الثالثة : ويعلم ما في الأرحام.
الرابعة : وما تدري : ماذا تكسب غدا؟.
الخامسة : وما تدري نفس : بأي أرض تموت؟
مما استأثر الله تعالى بعلمه ، وحجب معرفته عن علم الإنسان،هذه الأشياء الخمسة،التي يهم الإنسانية بجميع أفرادها وعصورها وأمكنتها معرفتها ، وتتطلع عقولهم وقلوبهم –دائما وأبدا- إلى استكناه مخبوئها،واستجلاء أمرها.
وهي المذكورة في قوله تعالى
(( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت )).
فلا يعلم عنها – أو بعضها – أحد من بني الإنسان شيئا ،فقد قال ابن عباس :
"هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى ، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل ،فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن ،لأنه خالفه".
ولم يعلمها أو يعلم ببعضها كذلك : النبي محمد صلى الله عليه وسلم نفسه ،فقد قال عبد الله بن مسعود :
كل شئ أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم غير خمس
(إن الله عنده علم الساعة..... إلى آخر الآية).
نعم : فهي مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله ،
فقد قال صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى
(( وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ))
إنها هذه , أي هذه الأمور الخمسة.
لكن لماذا الله سبحانه وتعالى خص نفسه بعلمها على هذا النحو ؟
وهل في إخفاء أمرها عن بني الإنسان مصلحة له ومنفعة ؟
أو غير ذلك؟
إن الذي نراه بادئ ذي بدء: أن اختصاص الله تعالى بعلمها ,وإخفاء معرفتها عن بني الإنسان , من أجل نعمة وعظيم لطفه على عباده.
وهذا : ما نحاول بعون الله تعالى البحث عنه , قدر طاقتنا البشرية,واهتداء بعناية الله تعالى بالإنسان ورأفته به.
غير أنه لابد لنا قبل هذه المحاولة – التي نأمل توفيق الله لنا فيها – من تقديم سريع يشرح بعض الفاظ هذه الآية الكريمة , ثم بيان لعلاقتها بما قبلها من آيات هذه السورة الكريمة ... لنقدم تحت ظلال ذلك , محاولتنا بإذن الله تعالى .
(( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت )).
شرح ألفاظ الآية.
الساعة.. هي : يوم القيامة , واليوم الآخر , والحاقة, والقارعة , إلى غير ذلك من الأسماء الكثيرة التي تسمى بها.
وقد سميت بالساعة : لأنها مع كثرة ما يحدث فيها وعظمته وتنوع هذا الذي يحدث وتباينه , تمر عند الله تعالى وبقدرته كما تمر ساعة في أوقاتنا هذه.
الغيث : هو ماء المطر , وسمى غيثا لأنه الكائنات الحية جميعا وينقذها من الهلاك ( وجعلنا من الماء كل شئ حي).
ومن المعلوم : أن الماء أكثر ضرورة للكائن الحي – بما فيه الإنسان – من الطعام , وأن الإنسان يمكنه أن يعيش فترة بلا طعام إذا توفر له الماء , وتقصر هذه الفترة التي يعيشها الإنسان كثيرا عن سابقتها إذا لم يكن الماء , ومن هنا : شاءت حكمة الله تعالى وقدرته , أن يكون الماء أوفر من الطعام من الطعام , وأيسر , وكذلك أرخص .
الأرحام …. هي أماكن الأجنة , وقد سميت هذه الأماكن بالأرحام : أخذا من الرحمة , والتراحم , الذي ينبغي أن يكون بين أفراد بني الإنسان , الذين تخلقوا جميعا في هذا المكان , وخرجوا بعناية الله تعالى وقدرته – مع اختلاف السنتهم , وألوانهم – جميعا منه .
والأرحام : جمع رحم , وهو اسم يجمع تحته كلفة الأقارب كما يقول العلماء , ومعنى أن بني الإنسان جميعا أقارب ينبغي أن يسود بينهم الحب , والوئام , والسلام , وإن تتلاشى من بينهم الخصومات والحروب.
تناسب الآية مع الأيات قبلها وعلاقته بالموضوع.
ونعود إلى الآية الكريمة : فنجد أن الله سبحانه وتعالى قد أتى بها عقب قوله تعالى في نفس السورة
( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده
ولا مولود هو جاز عن والده إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا
ولا يغرنكم بالله الغرور).
ففي هذه الآية : أمر الله سبحانه وتعالى الناس جميعا بتقوى ربهم , ودعاهم – بأسلوب المحذر الحريص على مصلحتهم – إلى الاستعداد لهذا اليوم , الآتي لا محالة .
هذه اليوم : الذي تذهل فيه
(كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها
وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ).
هذا اليوم : الذي يفر فيه المرء من أخيه ( وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) .
هذا اليوم : الذي لا يتحمل فيه أحد عن أحد شيئا ولو كان أعز الناس عنده ؛ حيث
(لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا ) .
ومن مقتضي هذا الاستعداد : أنه ينبغي أن لا تغرنكم الحياة الدنيا وما فيها من متاع ولهو وسلطان , اذ هي دار فناء , ومعبر للآخرة , وهي ابتلاء واستحقاق للجزاء.
وكذلك من مقتضى هذا الاستعداد :أنه ينبغي أن
( لا يغرنكم بالله الغرور )
من متاع يلهي, أو شغل ينسى,أو شيطان يوسوس في الصدور … وتقوى الله وتصور
الآخرة هما العاصم للإنسان من الغرور.
أقول : في هذا الجو , المؤثر , المشحون بالعواطف , والانفعال , يأتي قوله تعالى
(إن الله عنده علم الساعة…. إلى آخر الآية )
مصورا ومقررا : لعلم الله الواسع الشامل , ولقدرته غير المحدودة, وفي نفس الوقت : مصورا ومقررا لحجم الإنسان , ومدى جهله بكثير من الأمور , وعجزه أمام هذا المحجوب عنه,
والمغيب عليه , وهو يظن أن علم ذلك أو بعض ذلك بين يديه أو أقرب إليه من حبل الوريد.
وفي هذا ما فيه من : وجوب إذعان العبد لله تعالى , والاعتراف بالعجز والقصور , والجهل , أمام العلم الإلهي , والقدرة الربانية , وأدعى إلى مسارعته بالاشتغال فيما طلب منه , والابتعاد وعدم التنطع حول معرفة ما حجب عنه.
المغيبات الخمس وسر حجب معرفتها عن بني الإنسان .
والآن نتعرض لهذه المغيبات الخمس :
إن الله عنده:
1- علم الساعة.
2- وينزل الغيث.
3- ويعلم ما الأرحام.
4- وما تدري نفس ماذا تكسب غدا.
5- وما تدري نفس بأي أرض تموت.
الأولى : ( عنده علم الساعة )
(أ) أي : عنده فقط علمها لا عند غيره.
وفي الحديث الذي يرويه الإمام مسلم في صحيحه :
عن عمر بن الخطاب أنه قال
" بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم , إذ طلع علينا رجل , شديد بياض الثياب , شديد سواد الشعر , لا يرى عليه أثر السفر , ولا يعرفه منا أحد , حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فأسند ركبتيه إلى ركبتيه , ووضع كفيه على فخذيه , وقال : يا محمد أخبرني عن الإسلام .....
إلى أن قال : فأخبرني عن الساعة .
قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل؟
قال : فأخبرني عن أمارتها .
قال : أن تلد الأمة ربتها , وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون لفي البنيان .
قال ثم انطلق فلبثت مليا , ثم قال لي : يا عمر أتدري من السائل ؟
قلت : الله ورسوله أعلم .
قال : أنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ".
(ب) واختصاص الله تعالى بمعرفة وقت قيام الساعة
على هذا النحو: من أجل نعمة , وعظيم لطفه على عباده.
إذ لو علم البشر بوقتها : لرتبت الأعمال ونظمت الأحوال
عندهم , على أساس من هذا الميعاد , وأصبح اختيارهم لما
يفعلونه أو يتركونه مفقودا , وتفكيرهم بسبب العلم بها مسلوبا ,
واليها مشدودا, ولتوقفت عمارة الكون , وسعى الإنسان
الدائب لذلك , ولفقد هذا المجهول روعته ورهبته.
لكن حجب علم وقتها عنهم : يجعلهم يسيرون
وفق الحكمة التي تقول
"اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا , واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا " .
فهم من وقوعها على حذر دائم ,وتوقع مستمر وعلى استعداد
لها بالعمل الصالح الذي يقدمونه من أجلها , بالرغم من عدم
علمهم بوقتها , لكنها قد تأتي بغتة في أية لحظة ,
ولا يكون هناك مجال للتزود لها , والعمل من أجلها .
فالأولى : الاستعداد لها من هذه اللحظة , بل في كل لحظة ,
وهم في نفس الوقت : يدفعهم الأمل , وحب البقاء ,
الى العمل والسعي والكد وعمارة الكون .
ولولا هذا الأمل : لبطل العمل وتوقف السعي , وخرب الكون .
(جـ) أليس اختصاص الله تعالى بذلك إذا : من أجل نعمه,
وعظيم لطفه , على عباده؟
الثانية : (وينزل الغيث)
(أ) أي عنده فقط القدرة على أنزال الغيث لا عند غيره.
ومن الملاحظ : أن الله تعالى لم يقل (ويعلم نزول الغيث)
بل قال (وينزل الغيث) بما يفيد: أن اختصاص الله تعالى في الغيث- بجانب اختصاصه بالعلم بنزوله- هو اختصاص القدرة الإلهية بإنزاله.. حتى وإن كان في الناس من يعرف بالتجارب والمقاييس والأرصاد الجوية قرب نزوله ,فهم لا يقدرون على خلق الأسباب التي تنشئوه ,
كما أن علمهم بنزوله : علم جزئي , غير شامل , ولا محيط ,
وليس بمطابق دائما , كما هو الحال في علم الله تعالى بذلك ,
الشامل , المحيط , المطابق دائما , الذي لا يتخلف أبدا.
فالله سبحانه وتعالى وحده: هو الذي ينزل الغيث وفق حكمته تعالى , وبالقدر الذي يريده , وفي المكان الذي يحدده سبحانه وتعالى ,
وفي الزمان الذي يختاره , والى الناس الذين يختصهم بذلك .
فهو الذي ينزل الغيث : أي أنه هو الذي ينشئ الأسباب
الكونية التي تكونه وتنظمه , وليس غيره بقادر على ذلك ,
أو على جزء من ذلك أبدا .
(ب) واختصاص قدرة الله تعالى بذلك : من أجل نعمه,
وعظيم لطفه , على عباده.
إذ لو أن غيره تعالى يقدر على ذلك : لهلك الناس جميعا إما عطشا
وإما غرقا , وخاصة بين بني الإنسان , الذين ما هدأت
بينهم النزاعات والخلافات والخصومات منذ جريمة القتل
الأولى بينهم على هذه الأرض , وهم يتفننون كل يوم في إيجاد
الوسائل المدمرة والأسلحة الفتاكة التي يحاربون بعضهم بعضا بها ,
فلو أن إنزال الماء من السماء في مقدور الإنسان ؛ لاستغله في يوم
من الأيام سلاحا في الحروب ضد أخيه الإنسان , سواء بالمنع عنه لدرجة قتله عطشا , أو بإنزاله عليه بمقدار يزيد عن حاجته
ويهلكه غرقا … ولصار ذلك التحكم البشري في إنزال
الماء من السماء : أخطر سلاح وأفتكه , بل أخطر من كل
سلاح تفتق عنه العقل البشري حتى الآن.
(جـ) أليس اختصاص الله بذلك : من أجل نعمه ,
وعظيم لطفه على عباده؟
بلى !! وألف بلى !!.
الثالثة ( ويعلم ما في الأرحام).
(أ) أي عنده فقط علم ما في الأرحام لا عند غيره.
وليس بمستبعد أن تكون الأرحام عامة في الإنسان وفي غيره
من ذوات الأرواح , فالطيور لها أرحام , وذوات الأربع لها أرحام , والزواحف لها أرحام , وإناث الإنسان لها أرحام .
وكل هذه الأرحام يعلم الله وحده ما فيها , على اختلاف أنواعه : وأعداده , وأحواله , يعلم ذلك في وقت واحد ,بل يعلم ذلك كله
على تجدده في كل وقت وأن سبحانه وتعالى
( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور).
وقد يعلم بعض الناس – بما أتاهم الله من علم – بعض ما في الأرحام , لكن علمهم لهذا البعض لا يكون إلا في حالات معينة
وأوقات محددة منه .. كأن يعلم بعض العلماء أن الأنثى حامل
أو غير حامل قبل أن تظهر ملامح ذلك لغير المختص وذلك
بواسطة التحاليل , ويعلم بعضهم مثلا : أن وضع الجنين في بطن
أمه مقلوبا , وذلك بواسطة الأجهزة الحديثة التي تبين ذلك وهي
الأشعة أو بوضع يد الطبيب داخل رحم الأم ... أو يعلم فريق
ثالث نوع الجنين أذكر هو أم أنثى وهو ما يزال في بطن
أمه و..... أو..... إلى آخر هذه الأشياء التي يحاول الإنسان
معرفتها سواء كان بالنسبة للأجنة في رحم الطيور أو في رحم
الحيوانات أو في رحم الإنسان , والتي ما زال
يبحث حول معرفتها كل يوم .
لكن علم الله تعالى بذلك : يفوق وصفنا القاصر , وعلمنا العاجز , وخيالنا المحدود.
فالله تعالى : يعلم ما في أرحام الطيور , على اختلاف
أنواعها وأشكالها , ويعلم ما في أرحام الحيوانات جميعها ,
ويعلم ما في أرحام أمهات بني الإنسان على اختلاف أجناسها
وتعدد أشكالها وألوانها وتباين ألسنتها وتباعد أوطانها.
يعلم سبحانه وتعالى : ماذا في الأرحام ؟ في كل لحظة وفي كل طور , وهل يوجد حمل أو ليس هناك حمل ؟ - دون معامل
ولا مختبرات – حين لا يكون للحمل حجم ولا جزم ويعلم نوع هذا الحمل , ذكرا كان أم أنثى ؟ حين لا يعلم أحد عن ذلك شيئا في
اللحظة الأولى لاتحاد الخلية والبويضة , ويعلم كذلك ملامح الجنين , وخواصه , وحالته , واستعداداته ....
ويعلم فوق ذلك : ما لا يمكن أن يخطر على الإنسان
التفكير في معرفته أبدا , وهو علمه تعالى بما سيكون عليه
هذا الجنين بعد ذلك من حياة أو موت , قبل الولادة أو بعدها ,
ومن سعادة أو شقاء , غباء أو ذكاء , فقر أو غنى ,
استقامة أو انحراف , وهل سيكون شخصا مشهورا أو مغمورا ؟ متواضعا أو مغرورا؟ .....
إلى آخر هذه الصفات التي يكون عليها الجنين بعد
أن يخرج للوجود إنسانا سويا .
وعلمه تعالى : في كل ذلك , ولكل ذلك
– وهو يسير جدا جدا جدا – ليس بالعلم الظني ,
الناقص , غير المستوعب , ولا المستقصى , بل هو : العلم القطعي , الكامل , الشامل , المستوعب , المستقصى.
(ب) نعود فنقول : اختص الله تعالى بعلم ذلك كله على
هذا النحو , واختصاصه سبحانه وتعالى به من أجل نعمه
وعظيم لطفه على عباده
وبيان ذلك :
أن العلماء لو عرفوا كل شيء عن الجنين وهو في رحم أمه,
كعلم الله تعالى بذلك , سيصبح ناجحا يحمل الزهو والفخر لأهله ,
أو فاشلا يجلب عليهم العار .... الخ هذه الصفات والحالات
الموجودة في أفراد بني الإنسان .
أننكر أنه سيوجد بعض الناس – بل كثير منهم – يتوجهون
إلى الأطباء , للتخلص من هذا الجنين الذي علموا أنه سيصبح
مجرما أو فاشلا , أو صاحب عاهة , أو للتخلص من هذا
الجنين الذي يعرفون أنه أنثى عند من لا يريدون إنجاب الأنثى مثلا , ليصبح العالم – كما يريدون , وكما يحلو لهم حينها – كله : ناجحا , مشهورا , غنيا , ذكيا , سعيدا ,....... الخ
هذه الصفات المنتقاة, والتي يفضلونها ؟.
قبل أن ينكر أحد ذلك : أحب أن أنبه إلى ما يحدث اليوم
في تخلص بعضهم من الجنين لعدم رغبتهم في الإنجاب ,
أو في تخلص بعضهم من الجنين لأي سبب آخر ,
مما يعرفه المختصون.
تعالوا الآن لنتخيل ماذا يحدث على الخريطة البشرية ,
لو أن الإنسان علم ما في الأرحام علم الله تعالى به ,
دون أن يتحلى هذا الإنسان برحمة الله تعالى وحكمته ؟
وأترك لكم حرية الخيال : فيما سيكون عليه الحال ,
من انقلاب الموازين , واختلاف المقاييس , وتباين الأهواء ,
وصيرورة العالم إلى حال لا يستقيم معها الحال .
فهل يظهر الذكي إلا الغبي ؟
وهل يعرف السخي إلا بوجود البخيل ؟
وهل تدرك عز الغني إلا بمذلة الفقر ؟
وهل نشعر بنعمة الصحة إلا بعد المرض ؟
إنها حكمة الله تعالى في امتلاء الحياة الدنيا
بالأضداد والمتناقضات .
(جـ) لكني أسارع وأقول : أليس اختصاص الله تعالى
بعلم ذلك من أجل نعمة وعظيم فضله على عباده ؟
الرابعة (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا )
لكن الله سبحانه وتعالى وحده يدري , وغيره أبدا بذلك لا يدري.
والكسب : يشمل الربح المادي وغير المادي , فهو عبارة عن :
كل ما تكسبه النفس وتصيبه في غدها ,
ولا يعلم أحد ماذا يكسب غدا ؟ وماذا يلاقيه من خير أو شر ,
من نفع أو ضر , من يسر أو عسر , من صحة أو مرض ,
من طاعة أو معصية , من .. أو من ... أو من .... الخ ؟
وهو غيب مغلق , اختص الله تعالى بعلمه ووضع
على الإنسان دونه الحجب والأستار .
ولو لم يختص الله تعالى بعلم ذلك وحده وعرفه
الإنسان معه , لتوقفت حركة الناس جميعا .
فهذا : لن يخرج غدا لعمله : اتقاء حادثة عرف أنها ستحدث له .
وذاك : لن يخرج غدا لتجارته ؛ لأنه عرف أنه لن يربح في ذلك اليوم ما يكفيه , أو لن يربح شيئا .
وثالث : لن يخرج غدا للامتحان ؛ لأنه عرف
أنه سيرسب في هذا العام .
ورابع : لن يخرج غدا لأنه سيصاب في الظهيرة
بمغص كلوي حاد . وآخر لن يخرج غدا لأنه .....
وآخر لن يخرج غدا لأنه .....
وهكذا : والأسباب كثيرة , والأيام حبلى بكل جديد.
ومن من الناس لا يصيبه كل يوم شيء يعكر عليه بعض صفوه؟
ومن من الناس تحلو له الحياة دائما ؟
والدنيا طبعها هكذا .. إن حلت : أوحلت, وإن كست أوكست ,
وإن أعطت أخذت , وإن بسطت : قبضت,
وعجلتها على هذا الأساس تدور.
والناس يحدوها الرجاء ويدفعها الأمل ولولا أن في
غدها الجديد الآتي , ولولا أن ما في الغد مجهول ومستور :
ما كان لغدها هذا
الرجاء وهذا الأمل , وكذلك لولا هذا الرجاء وهذا الأمل :
ما كان لسعى الناس لغدها وفي غدها طعم يزين
لها حب الحياة ويشجعهم على العمل .
(جـ) ألستم معي في أن اختصاص الله تعالى
بذلك من أجل نعمه وعظيم فضله على عباده ؟
الخامسة (وما تدري نفس بأي أرض تموت)؟
(أ) لكن الله سبحانه وحده يدري بالزمان والمكان الذي فيه وعليه كل نفس تموت , وغيره أبدا بذلك لا يدري.
ومن الملاحظ : أن موت الإنسان مرتبط بظرفين ,
أي بشيئين , هما:
الزمان والمكان , فهو يموت في وقت معين وفي مكان معين .
وقد نفى الله سبحانه وتعالى في الآية عن الإنسان علمه بالمكان , ولم ينف – صراحة – عنه علمه بالزمان.
فهل اختص الله تعالى وحده بالعلم بمكان موت الإنسان ,
ولم يختص بالعلم بالزمان كذلك فيشاركه به الإنسان ؟
أو أنه سبحانه وتعالى اختص بمعرفتهما معا
وحده تعالى دون غيره ؟
ولماذا إذا لم يصرح بذلك في الآية الكريمة؟
ونقول من المعلوم أنه يسهل على الإنسان تحديد
مكان موته ولكن يصعب عليه تحديد زمان ذلك ,
سواء أكان هذا بالنسبة له أم لغيره.؟
ولتقريب ذلك للذهن : نضرب المثل ببعض المقعدين الذين لا يغادرون مكان إقامتهم أبدا وكذلك أفراد بعض الشعوب التي ما تزال تسكن الكهوف أو الشعاب أو قمم الجبال ولا يعرفون أن هناك عالما غير عالمهم هذا , وكذلك بعض أهل القرى والبوادي والنجوع الذين لا يغادرونها أبدا , ولا يفكرون في ذلك نهائيا أو يحبونه .
فكثيرا من هؤلاء يعرفون مكان موتهم , ونحن كذلك يسهل
علينا بناء على معرفتنا بظروفهم هذه معرفة مكان موتهم .
لكن ذلك لا يتيسر بالنسبة لمعرفة زمان موت المرء كما أنه لا يمكن لأمهر الأطباء أن يحدد ذلك بالنسبة لأي مريض حتى ولو ظهرت عليه كل علامات الموت.
ومن هذا نرى ونفهم : أن معرفة مكان موت المرء أيسر وأسهل وأمكن من معرفة زمان موته :
هذا تصورنا وفهمنا ...!!
لكن الحقيقة : تخالف هذا التصور وهذا الفهم ,
فلا يعرف مكان موت الإنسان ولا زمان ذلك
إلا الله سبحانه وتعالى وحده .
أما أسلوب الآية الكريمة : فقد كان على هذا النحو لتنزع منا
هذا التصور والفهم بإمكان معرفة الإنسان لمكان موته .
وهو : تفنن في الأسلوب , الذي خوطب به العرب ,
وهم أرباب البلاغة والفصاحة آنذاك .
ومن هنا : كان تصريح الله تعالى بحجب الأيسر والأسهل
والأمكن عن علم الإنسان – وهو معرفة المكان فقط –
لونا من الإعجاز البياني للقرآن الكريم , حيث أن نفي الأيسر
والأسهل والأمكن معرفته , وهو المكان : يقتضي بالضرورة نفي الأعسر والأصعب والمحال معرفته وهو الزمان .
وبعبارة أخرى : أن الله سبحانه وتعالى , نفى عن علم
الإنسان ما يظن أنه قد يعرفه ؛ فانتقى بالتالي ما يعتقد أنه لا يعرفه .
(ب) لكن !! لماذا اختص الله تعالى وحده بعلم ذلك؟
أن من يدرك لطف الله بالإنسان : يعرف أن السر في ذلك
في غاية الوضوح واليسر .
ذلك : أن الذي يعرف مكان موته , ونهاية أجله ,
سوف لا يذهب إليه , أعتقد أنه لن يذهب هناك إلا القليل
والقليل جدا , وهي فئة معينة تذهب للموت ولو لم تعرف مكانه ,
بل أن غالبية البشر لن تذهب إلى هذا المكان أبدا أو على الأقل في اللحظة المعينة المعروفة , ولو كان هذا الأمر على هذا :
لحدث بذلك تعارض شديد – وحاشا لله- بين علمه بمكان موت
الإنسان وقضائه في أمانته , وبين امتناع الإنسان عن
الذهاب إلى المكان , وعدم رغبته في تسليم نفسه للموت
طائعا مختارا .
وأيضا : فالذي يعرف زمان موته , سيكون لهذه اللحظة أسيرا , وتفكيره فيها كثيرا , فاقد الأمل , عديم الرغبة للعمل حتى ولو كانت بعد زمن بعيد , اذ أن كل إنسان يتصرف , وكأنه سيعيش الدهر كله,وسيمتلك الدنيا بأسرها , ولولا جهله بيوم موته , ما أكل ولا شرب, ولأصبحت الطاعة جبرا , والبعد عن المعاصي قهرا, ولفقد نعمة الاختيار , وفضيلة الترجيح ,ولأصبحت الحياة : بلا طعم ولا لون ولا رائحة , الكل يعيش بلا أمل , ويسير نحو موعد ومكان يسلم نفسه فيه للموت.
إنه لون غريب من الحياة .. أجد الناس فيه – لو كان – سكارى حيارى يرتدون جميعا حلل التعاسة واليأس.
(جـ) ألا ترون معي أن اختصاص الله تعالى بعلم ذلك :
من أجل نعمه وعظيم لطفه على عباده؟
وأخيرا ,
وكما رأينا فإن اختصاص الله تعالى بعلم هذه الأشياء الخمسة, وحجبها عن علم الإنسان , من أجل نعمة, وعظم لطفه على عباده.
أليس كذلك!!!؟؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته