عِبَادٌ صنعوا خاتمتهم بأيديهم:
كان عمر بن الخطاب - رضِيَ اللهُ عنهُ - معروفًا بِعِبَادَته وجمالِ سياسته، وجهاده وحسن إمامته، وكان يتمنى أن لو مات على ختامٍ يصنعه بيده، ويحب أن يلقى الله عليه!
عن حفصة - رضي الله عنها - قالت: سمعت عمر - رضِيَ اللهُ عنهُ - يقول: اللهُمَّ قَتلاً فِي سَبِيلِكَ، وَوَفَاةً فِي بَلَدِ نَبِيِّكَ، قلت: وأنى يكون ذلك - وقد كان الجهاد خارج المدينة، وهي الآن أرض سلام وأمان - قال: يأتي به الله إذا شاء، والله إن الذي ساق عمر من مكة إلى المدينة، لقادر على أن يأتيه بالشهادة في بلد نبيه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم!
ثم إنه لمَّا نفر من مِنى مُؤدِّيًا لِمَنَاسِكِ الحجِّ كوَّم كومة من بطحاء، وألقى عليها ثوبه، ثم استلقى عليها، ورفع يديه إلى السماء، وقال: اللهُمَّ كبرت سِنِّي، وَضَعُفَت قُوَّتِي، وانتشَرَت رَعِيَّتِي، فَاقبضنِي إليكَ غيرَ مُضَيِّعٍ ولا مُفَرِّط!
وجعلت أيام ذي الحجة تمرُّ سريعًا، وهو يرسمُ خاتمته بيده، فقال - كما روى عنه أَسْلَم - رضِيَ اللهُ عنهُ -: اللهُمَّ لا تَجعَل قَتْلِي عَلَى يَدِ عَبدٍ قَد سَجَدَ لكَ سَجدةً وَاحِدَةً، يُحَاجُّنِي بِهَا يَومَ القِيامَة!
فما انسلخ الشهر حتى اصطفاه الله - عزَّ وجل - وهو قائمٌ بين يديه يصلي صلاة الفجر التي تشهدها جموع الملائكة؛ إذ طعنه أبو لؤلؤة المجوسي؛ ليموت عمر - رضِيَ اللهُ عنهُ - إمامًا كما عاش، عابدًا في صلاةٍ كما كان، شهيدًا مقتولاً في بلد النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - كما تمنى، بل بِجِوَارِ مِنبرِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وقبره الشريف، وذلك بِطَعنٍ من عبدٍ لم يسجد لله - عزَّ وجل - سجدةً واحدةً!
وهذا الشيخ الدكتور إبراهيم المقادمة صاحب مأثرٍ فريدٍ أتركه له يحدثك به:
يقول الدكتور:جاءني النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - في رؤيا منامية، وكان عندي في الغرفة طعامٌ، فقلت له: أفطر معي يا رسول الله، قال: بل أنت ستتغدى معي يا إبراهيم!
فلما أصبح الصباح، فرح فرحًا عجيبًا امتلأ به قلبه، ثم دعا ولده عبد الرحمن وأسَرَّه ما رأى، وقال له: يا بني، إني رأيت حبيبي رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - الليلة، وأخبرني أني سأتناول معه طعام الغداء اليوم، ومعلومٌ أن الغداء إنما يكون بعد الظهر، وقد اقترب موعد اللقاء الجليل، فإن حصلت لي شهادةٌ فأخبر الناس بما حدثتك، وإلا فكأنك لم تسمع مني شيئًا!
فَخَرج الدكتور كعادته، وقد أعَدَّ نفسه جيدًا للقاء، وقبيل الظهر قصفته قوات البغي الصهيونية بصاروخٍ ارتقى عَقِبَهُ إلى الله شهيدًا، نحسبه كذلك والله حسيبه، ولا نزكيه على ربه - عزَّ وجل.
وهذه أم وليد الناجم، إليك خبرَها:
كانت امرأةً صالحةً مخلصةً مُصْلِحَةً، تنشر حكمة الله بِلِسَانِهَا في كل ثَغْرٍ تدخلُهُ، كالمصليات النسائية، ودور التحفيظ، بل جَعلَت درسًا خصصته لجاراتها في يومٍ ثابت بمنزلها.
ومن إخلاصها: أنها كانت ترسل لإمام المسجد أموالاً بِسِرِّيَّةٍ بالغة؛ ليحفز بها أشبال الحي لأداء الصلاة، حتى إنه بعد موتها جاء يشكر زوجها على صنيعها، قائلاً: ستفتقد حلقات التحفيظ داعمًا رئيسًا لها، وإذا بزوجها يعجب من كلامه؛ إذ يسمعه لأول مرة، وربما فاز ولده بجائزة كانت أمه من دفعت كلفتها والجميع لا يعلم.
وفي عامها الأخير بدأت تصوم يومًا وتفطر يومًا، بل إنها وفي يومٍ من خواتيم أيامها وزعت مبلغًا طائلاً على الفقراء، وبعض المدارس النسائية، وثلة من مشاريع حفر الآبار المائية.
وأما عن وفاتها، فَكَثِيرًا ما كانت تدعو ربها أن تموت في بيته الحرام، أو أثناء كلامها مع أخواتها في اتباع الحلال، وترك الحرام، وإذا أراد الله أمرًا هَيَّأَ أسبابَهُ!
فإن الله تعالى أكرم ولدَهَا بِوَظِيفَةٍ، فَأَبَتْ عليهِ أن يفتتح دوامه فيها إلا بعد عُمْرةٍ ترافقه فيها!
وقبل السفر بأيام قليلة رأت في منامها رؤيا وصفتها بأنها "رُؤيَا خَير"، وأن تأويلها إن صدق فستعرفونها قريبًا، ثم جمعت جاراتها، وألقت على مسامعهن عظةً عن الموت، وأحكام العزاء والبدع فيه، ثم طوت سجادتها على غير عادتها، وانطلقت وزوجها وأولادها إلى ساحة المطار، وقبل ارتقاء الطائرة رفعت يديها تدعو الله - عزَّ وجل - بماٍ يزيد عن [15 دقيقة]، دعت فيه لنفسها، ولزوجها، ولأولادها، والجميع يُؤَمِّنُ على دعائها، ثم شكرت زوجها، وأنه سببٌ رئيسٌ في تيسير سُبُل دعوتها إلى الله تعالى، وودعته وودعت أولادها، ثم صعدت في الطائرة برفقة ولدها وابنتها وهي تنظر إلى زوجها وأولادها، وما علموا أنها آخر نظرة!
وشاء الله أن تصل إلى المسجد الحرام في الثُّلُثِ الأخيرِ من الليل، حيث نزول الرب سبحانه، وشرعت في الطواف حول البيت العتيق سَبعًا، ثم بدأت السعي بين الصفا والمروة، وإذا بِمُؤذنِ المسجد الحرام يَصدَحُ بالأذان، فقالت لولدها وابنتها: ماذا لو نوينا الصيام، فاليوم الخميس، وهو من شعبان؟ ففعلوا!
ثم صعدت للصفا في فَاتِحَةِ الشوط الخامس، وأخذت تدعو بين الأذان والإقامة، ثم سجدت فجأةً، فقال ولدها: لعلها مرت بآية سجدة في دعائها، فلمَّا طالت وطالت، حركها وإذا بها تسقط على الأرض، فأحضر الطبيب الذي أخبره بوفاتها، وقد رحلت إلى ربها - عزَّ وجل - وهي في أَحَبِّ البقاعِ إليهِ، متلبِّسة بِمَناسِكِ العُمرة، صائمة عابدة، بل ورغَّبت غيرها في الصيام؛ ليكون موتها صورةً مطابقةً عما عاشت عليه في حياتها، والله ذو الفضل العظيم
(( لا تذهبي بعيداً لايزال للموضوع بقية ))